أحاول دائماً ألا أكتب في السياسة إلا في القضايا التي أجد أن لها علاقة بالشأن الفكري، ولم تكن الأزمة التي حدثت بين تركيا وهولندا ومِن ورائها دول أوروبا الغربية في أصلها من القضايا التي ينطبق عليها هذا الشرط، فهي عبارة عن خطأ سياسي ودبلوماسي وقعت فيه تركيا، ترتب عليه ردة فعل قوية من الجانب الهولندي والأوروبي، لكن الذي جعل هذه الأزمة تدخل في الشأن الفكري: أن تركيا لم تخطئ سهواً أو جهلاً، بل أخطأت وهي أعرف الدول بموضع وموضوع خطئها، وقد وضعت نتائج هذا الخطأ نصب عينيها كي تصنع منه جسراً تصل به إلى أشياء من خططها المستقبلية، فالأزمة من أساسها من صناعة الساسة الأتراك، وفيما يتعلق بدول أوروبا ليس هذا الأسلوب جديداً عليها، بل الجديد هو أن تستخدمه دولة شرقية في مواجهة دول الغرب، فمَن يقرأ مثلاً كتاب الفيلسوف الفرنسي مونتسيكيو عن تاريخ نشأة الدولة الرومانية قبل الميلاد بقرون، ومن يقرأ تاريخ بطرس الراهب والحروب الصليبية، ومن يقرأ أيضا قصص الدول المستعمرة بدءًا بحرب الأفيون بين بريطانيا والإمبراطورية الصينية حتى أزمة الغواصات التي اضطرت بعدها الدولة العثمانية للدخول في الحرب العالمية الأولى، بل من يقرأ عدداً من أزمات دول الشرق حديثاً مع أوروبا، كحادثة غزو صدام للكويت وحادثة مقتل عمال البترول في أميناس جنوب الجزائر، من يقرأ كل ذلك يعلم أن صناعة الأزمات ومن ثَمَّ استثمارها هي حرفة أو لنقل بضاعة سياسية تخصصت أوروبا في العمل بها، وتُعَد _ في رأيي _ الأزمة التركية الهولندية من الحالات القلائل التي تُستخدَم فيها هذه السياسة من دولة شرقية وإسلامية ضد أوروبا.

أما البرهان على كون هذه الأزمة صناعة تركية فيبدو جلياً لمن يقرأ الأزمة منذ إرهاصاتها.

بداية الأزمة أن وزارة الخارجية التركية أعلنت عن أن وزيرها سوف يقوم بزيارة هولندا لحشد التأييد للتصويت بنعم لاستفتاء النظام الرئاسي المزمع التصويت عليه في تركيا، وذلك بين الجالية التركية أو المواطنين الهولنديين من أصل تركي.

أرسلت هولندا إلى تركيا بأن هذه الزيارة غير مرغوب فيها للعديد من الاعتبارات الأمنية والسيادية والوطنية، وأن تركيا بإمكانها حشد التأييد في هولندا ولكن بأساليب أخرى يمكن الاتفاق عليها بين البلدين.

التصرف الصحيح دبلوماسياً: أن تستجيب تركيا لرغبة هولندا، فهي رغبة متوافقة مع القوانين الوطنية والأعراف الدبلوماسية العالمية، فتركيا نفسها لا يمكنها أن تأذن مثلاً لوزير خارجية أرمينيا بحشد الأتراك من ذوي الأصول الأرمنية لتأييده في مشروع سياسي داخل أرمينيا.

لكن الرد التركي جاء بإعلان وزير الخارجية التركي إصراره على القيام بهذه الزيارة، وأن هولندا سوف تتعرض لعقوبات من تركيا في حال رفضها دخوله في أراضيها.

إذاً فقد أَدْخَلَت تركيا عمداً وبقوة هولندا في تحدٍ صارخ أمام شعبها، فهي حتى لو كان لديها النية في الموافقة فإنها لن توافق بعد هذا التحدي الذي يصور تركيا وكأنها المهيمنة على شؤون هولندا التجارية والسياسية وأنها يجب أن ترضخ أمام العقوبات التركية.

وفعلا نَفَّذَ وزير الخارجية تهديده فجاء للدخول إلى هولندا وهو يعلم يقيناً أنها لن تسمح له وهذا ما حدث، وبعده جاءت التصريحات التركية الشديدة وردود الفعل الهولندية والأوروبية والمعلومة لدى الجميع.

استطاعت تركيا من خلال هذه الأزمة تصوير نفسها أمام مواطنيها بأنها الدولة القادرة على تحدي دول أوروبا، وأن مقوماتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية جعلت منها دولة قادرة على فرض العقوبات على أوروبا، وأن دول أوروبا تتآمر عليها من أجل أنها مغتاظة من النجاحات العظيمة التي حققتها، هذه الصورة التي وصلت للمواطن التركي جراء موقف حكومته جعلت جميع الأحزاب التركية حتى أشدها عداء لحزب العدالة تعجز عن معارضة موقف الحكومة، وهذه الثمار لن تفيد حزب العدالة في الاستفتاء الذي هو مُقْدِم عليه، بل ستفيده في أشياء كثيرة لاحقة ستظهر في حينها.

أما علاقة تركيا بهولندا وأوروبا فستعود كما كانت، ولكن بعد الانتهاء من استثمار الموقف، بل وسوف ينجح إردوغان في تصوير عودة العلاقات وكأن أوروبا عادت صاغرة، وهذا ما لن يكون صحيحاً في واقع الأمر، لكن الجميع سيقول ذلك أو لن يجرؤ أن يقول غير ذلك، ليس فقط من الأتراك، بل من شعوب العالم الإسلامي ومثقفيه وعلمائه، ومن يقول غير ذلك سيكون عرضة للاتهام بممالأة الغرب وكراهية المشروع الإسلامي وربما عداوة الدين وأهله.

علاقة هذا بالفكر تتضح من جواب السؤال التالي: كيف انساق الشعب التركي مباشرة مع إردوغان مع أن القصة واضحة من أولها، بل كيف انساقت نخب إسلامية كبيرة وعظيمة العدد مع تركيا في موقفها هذا، وأضحى الجميع يتحدث عن إن ما حدث هو جزء من مؤامرة أوروبا على تركيا وعلامة قوة تركيا في مواجهة أوروبا، كيف حصل ذلك؟!

الجواب: أن تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية قد جعلت إدارة الرأي العام مهمة أولى قبل إدارة الاقتصاد والهيكل الوظيفي والبنى التحتية في الدولة، بل إنها جعلت نصيباً كبيراً من نشاطاتها السياسية والإعلامية لإدارة وتوجيه واستقطاب الرأي العام، وليس هذا نقداً لحزب العدالة ولا للرئيس، بل هو إشادة بتجربة متميزة ونجاح تضيفه تركيا إلى نجاحاتها السياسية والاقتصادية والإدارية، وأي دولة إسلامية تطمح لمنافسة تركيا لا بد أن تبدأ بما بدأ به حزب العدالة وهو كسب الجماهير وليس معاندتها أو تهميشها أو الإساءة إليها أو التحريش وجعلها تتصارع فيما بينها.

إنَّ استقطاب الرأي العام مسألة في غاية الأهمية تعمل لأجلها الدول الجادة في مشاريع الاستقرار والتنمية، لاسيما تلك المشاريع التي يكون المواطن شريكاً فيها وتتطلب شراكتُه شيئاً من التغيير في حياته الاجتماعية وطريقته الاستهلاكية، فالرأي العام هو الداعم الأقوى لكل ذلك، واستنهاضه يجب أن يكون مصاحباً لجميع الخطوات والخطابات الإعلامية أو السياسية أو الاقتصادية.

إن استنهاض الرأي العام واستقطابه والتودد إليه يجعل المواطن منسجماً مع تطلعات ساسته ومتفهماً لها بل وسباقاً لهم إليها، وحين تصل دولة ما إلى هذا المستوى من استقطاب الرأي العام فإنها ستكون مهيبةً لدى خصومها الأقوياء فضلاً عن خصومها الضعفاء، بل لنقل إن جميع الضعفاء سيسقطون، ولن تكون هناك حاجة لإرهابهم، وسيكون المواطن متفهماً لكل المشاريع، حتى التي قد تطال حياته الخاصة وجيبه وطموحاته.

فالكل يعلم أن ما حققه حزب العدالة والتنمية من نجاحات لم يكن جيب المواطن بعيداً منها، بل لا تزال هذه النجاحات تأخذ من جيب المواطن الشيء الكثير، ومع ذلك نجد أن المواطن في الغالب الأعم معها، بل إن المواطن التركي هو السبب الحقيقي في نجاح تركيا في إعادة تهيئة البنية التحتية من جديد في البلاد، وهو السبب في نجاح الدولة في تنظيف قاعدة هيكلها الإداري.

إن السياسة المألوفة في معظم بلدان العالم الإسلامي في مخاطبة الرأي العام تتلخص في دفع المواطن ليقول ما تريده الدولة وهي سياسة أثبتت التجارب الكثيرة أنها لا تزيد العلاقة بين المواطن والدولة إلا سوءًا، وأبرز مثال لذلك هي تركيا نفسها ولكن قبل تولي حزب العدالة مقاليد الحكم هناك، حيث كانت الأحزاب بكل آلاتها الإعلامية وممثليها في الحكومات والبرلمان يدعون الشعب كي يقول ما يريدون لكنهم لا يقولون ما يريده الشعب.

جاء حزب العدالة وقلب المعادلة فأصبح يتحدث عن آمال الشعب التي كان يخشى أن يبديها في الحكومات السابقة، دين الشعب وهويته وتاريخه وارتباطه بالأمة الإسلامية وقضاياها، وقام الرئيس التركي نفسه بصناعة مواقف ذات أبعاد معنوية لدى الشعب، يقوم الإعلام التركي بتفعيلها واستثمارها في رصيد الحب الشعبي ثم يجعل بقاءها أو تغييرها مرهونا بالمصلحة لا غير.

إن الذين كانوا فقراء حين كان الدولار يُصرف بثلاثة آلاف ليرة تركية لازالوا فقراء والدولار يصرف بثلاث ليرات، لكن الفارق هو أن المواطن هناك كان يشعر أن الدولة ضده، وهنا أصبح يشعر أن الدولة معه، وإن كان لازال فقيراً في الحالتين.