الفضاء العام كالشمس عند الصباح يتشاركها الجميع، فتسمع العصافير تغرد والأولاد بين بكاء وضحك قبل الذهاب للمدرسة، وأنت تسبق خصومة زوجتك إلى سيارتك، فترفع صوت المسجل على فيروز (حبيتك تنسيت النوم)، فتأتي الزوجة رفقة الأولاد ليختلط صوت تذمرها منك مع صوت فيروز مع ابتسامتك المعتذرة في هارموني عجيب، ينسيها خصومتها، وبعد توزيع العائلة على المدارس، تشتري قهوتك فتستمتع بموسيقى مقهاك المفضل يقطعها أحيانا صراخ الزبائن بأنواع القهوة المختلفة، تخرج من المقهى فيشدك عبدالباسط عبدالصمد مرفوع الصوت في مركاز كبار السن في الشارع الخلفي، مجتمع متنوع مليء بالأصوات تتشارك هذا الفضاء العام دون إصرار أحد على أحد أن يكون صاحب الصوت الأوحد والباقي صه.
يشتري جوالا جديدا ثم يحدثك عن نغماته، وأن هذه في أصلها المعزوفة التاسعة لبيتهوفن، وأن الأخرى مقتبسة من (بحيرة البجع) لتشايكوفسكي، وأن الثالثة مستوحاة من (كيتارو) في شرق آسيا الخ، وبعد هذا الحديث عن الموسيقى يفاجئك بأن نغمة جواله ليست سوى صوت (طرق على باب خشبي)، فتسأله عن سر هذا التناقض العجيب، فيجيبك: أخاف يطلع لي (مطوع) يقلب عليّ عيشتي، فتسأله بكل أدب: ولكن هذا الطرق لا يعفيك من إغلاق صوت الجوال بمجرد دخولك إلى المسجد أو المكتبة العامة أو حضورك محاضرة، فيرد عليك: لا... لا أنا أقصد أنه ربما سيقلب علي عيشتي لمجرد أن الجوال كان يطلق الموسيقى حتى ولو كنت في مكان عام، فتدرك أنه يعيش (رهاب المطاوعة) في سنين خلت، عندما كان بعض المطاوعة يتغولون على الفضاء العام للناس، في أسواقنا وشوارعنا وحدائقنا ومتنزهاتنا، ومقاهينا ومعارضنا وحتى حفلات زواجنا، بل وسياراتنا إلى حد (مطاردة الزوج وزوجته لرفعهم صوت الأغاني ليتوفى الزوج وتكاد تفقد الزوجة أحد أطرافها عدا إصابة الأبناء)، حتى في زمن وصلوا منازلنا عبر أبنائنا المراهقين آنذاك يعلمونهم المزايدة على آبائهم في إخراج التلفاز من المنزل أو تكسيره، لينتهي كل ذلك، فنجد هذه الأيام بعض المراهقين من المطاوعة يحاول السيطرة على الفضاء العام كأنه المالك الحصري له، كما لو كان منزله يفرض فيه على المجتمع قناعاته الخاصة، فكلنا مثلا يعلم -باستثناء فئة قليلة جدا لا تريد أن تعلم- أن غالبية المجتمع السعودي يستمتعون في منازلهم بوجود الطبق الفضائي بقنواته المتعددة التجارية منها والرسمية على قمر العربسات من أقصى الشرق العربي إلى أقصى المغرب العربي، ولهذا فمن المزايدة على الغالبية السعودية التي تعيش مع عائلاتها تشاهد هذه القنوات أن تقوم فئة لا تكاد تمثل إلا أقل القليل في المجتمع السعودي من احتكار الفضاء العام والسيطرة عليه وفرض قناعاتها الخاصة التي لا يشاركها إياها غالبية المجتمع السعودي، والفيصل في ذلك استفتاء شعبي عام تنطق به أسطح المنازل.
أخيرا ما فعله الشاب في معرض الكتاب لا علاقة له بحسبة أو احتساب أو منكر أو معروف، فهو بمجرد صعوده إلى سطح منزلهم سيرى الأطباق الفضائية بأنواعها، ويدرك أن الكل يستمتع بمشاهدة القنوات الفضائية، بما فيها من تصريحات (لسياسيين محنكين وأكثرهم غير ذلك)، وموسيقى (لملحنين عباقرة وأكثرهم غير ذلك)، ومسلسلات وأفلام (لقصص عظيمة وأكثرها غير ذلك) ومشاهير طرب وغناء (يرتقون بالفن والذوق وأكثرهم غير ذلك)، ونجوم وعظ ديني (صادقين وأكثرهم يقولون ما لا يفعلون)، وقرَّاء قرآن (صالحين وأكثرهم لا يجاوز تراقيهم)، كل هذا يشاهده السعوديون في منازلهم، ثم يحضر هذا الشاب إلى (الفضاء العام الخاص بوزارة الثقافة في معرض الكتاب) فيريد أن يفرض عليها قناعاته الخاصة التي يستطيع أن يعيشها في منزله فقط، لاعتقاده بصواب فتوى قديمة حرمت المذياع والتلفاز لشبهة أن يمر المؤشر على إذاعة تبث أغنية أو صوت امرأة، ولكن ليس من حقه إلزام أحد بهذه الفتوى، فالفتوى عند من يعرف ألف باء الفقه (ليست ملزمة)، ولا ملزم سوى (القضاء)، ولهذا فالقاضي أعلى سلطة من المفتي في واقع الحال، والمفتي لا يملك سلطة إلا وفق قناعة المستفتي بأخذ الفتوى عنه، ولهذا فمن حق البعض مثلاً الأخذ بفتوى ابن عثيمين في زكاة الحلي التي يستعملها النساء، ومن حق البعض الآخر عدم الزكاة في هذه الحلي أخذاً بفتوى صالح الفوزان، دون أن يطعن أتباع فتوى ابن عثيمين في من أخذ بفتوى صالح الفوزان بأنهم مقصرون في دينهم أو أنهم أهل هوى وشهوة في الشح وكنز المال، ومثله من يأخذ بفتوى الإمام الغزالي -المتوفى 505هـ- وابن حزم في جواز سماع الأغاني، ومعهم في إباحة الأغاني من علماء هذا الزمن الشيخ يوسف بن عبدالله الجديع، وأستاذ الفقه المقارن الدكتور سالم بن علي الثقفي، وغيرهم الكثير من علماء العالم الإسلامي، وليس من الدين الطعن في ذمم الناس إذا أخذوا بفتوى الإباحة لمخالفتها هوى المزايدة الدينية عند البعض أو قناعة البعض الآخر في التحريم ليبدأ سيل الاتهامات بأنهم شهوانيون أغواهم الشيطان، كما لو قام متطرف من أتباع الألباني الذي امتنع عن إباحة المسيار فقام بالطعن تصريحا أو تلميحا في نية (أنصار المسيار) بأنهم أهل شهوة وهوى، لتبقى النوايا في علم الله، دون الطعن في مروءة أحد أو عدالته.
الفضاء العام، فضاء مشترك له أدبياته وتقاليده كل مكان بحسبه يدركها الطفل في المدرسة قبل الكبير دون الحاجة إلى مزايدة أحد على أحد، فما يصح في فضاء السوق والحديقة العامة والمعارض الثقافية والصناعية والاقتصادية والملاعب الرياضية والمسارح قد لا يصح في المسجد والمكتبة العامة وقاعة المحاضرة وأقسام العناية المركزة بالمستشفيات، فكيف لو رأى المتزمتون الحبشة وهم يلعبون في المسجد النبوي بحضرة النبي ومعه زوجه يسترها بردائه، فلماذا اكتفى (يسترها بردائه) ولم يأمرها بالنقاب وعباءة الرأس، وما هم فاعلون بالحبشة؟! ولهذا بإمكان من لا يعجبه مكان ما أن ينسحب وينصرف عنه بهدوء وأدب يليق بأخلاقه كإنسان محترم، فإن جرى منعه من الانصراف فله حق الاعتراض، ومن يعاني رهاب المطاوعة فعليه بقصيدة محمود درويش (عابرون في كلام عابر)، وليردد كلماتها على أولئك الغزاة الذين (يسرقون أعمارنا ثم يعتدلون)، كتعويذة تشفيه وتعيد له الأمل والطمأنينة في وطن يستحق الحياة.