أناس يأتون وآخرون يرحلون، تلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا. وقد قال أصدق القائلين، في محكم كتابه: "أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" صدق الله العظيم. الفرق، أن التاريخ لا يحتفظ في ذاكرته إلا بأولئك الذين يسهمون بجدارة واستحقاق في صناعته. وقد وصفهم الفيلسوف الألماني هيجل بالعظام، موضحا أن التاريخ لا يقوم إلا على أكتافهم.

قبل عشرة أيام، غيب الموت، بالعاصمة الأردنية عمان، واحدا من صناع تأريخ النهضة في بلاد العرب، فارسا من فرسان القلم، الدكتور عبد العزيز الدوري، أستاذ التاريخ، الذي حاز على لقب شيخ المؤرخين. رثته معظم أجهزة الإعلام العربية والعالمية والمؤسسات الثقافية، بما يتناسب مع قامته العلمية الكبيرة. ووصفه المؤرخ البريطاني، بيرنارد لويس بأنه حجة في موضوعه، وأنه صار بعد رحيله وثيقة تاريخية. لقد أثرت مؤلفات الراحل المكتبة العربية، وبشكل خاص في كتابة التاريخ، وسوف تبقى مؤلفاته مصدراً مهما من مصادره.

لقد كان الراحل علما من أعلام التاريخ العربي الإسلامي، تميز بالعمق وقوة التحليل. ولأن التاريخ من وجهة نظره، صيرورة وحركة، فقد أكد على التركيز عند كتابة التاريخ على التطور الاجتماعي، والعوامل الاقتصادية، والرجوع باستمرار للمصادر الأصلية ومحاكمتها، واستخلاص النتائج منها. فليست كتابة التاريخ، مجرد تدوين للأحداث كما وقعت، بل وضعها في سياق موضوعي وتاريخي مناسب.

وبرغم تقدير المؤرخ الراحل، لمن سبقوه من المؤرخين، ولمختلف المناهج التاريخية، فإنه يرى في نظرية العلامة العربي عبد الرحمن بن خلدون، كما عبر عنها في "المقدمة"، التفسير الصحيح للتاريخ، كونها تأخذ بالحسبان الجوانب الحضارية والاجتماعية والاقتصادية. وتضع نظاما خاصا لتفسير التاريخ، قوامه العصبية والعمران والشيخوخة، فإن ذلك لا يعني بالضرورة الالتزام بالتفسير المادي للتاريخ. إن ترتيب الحوادث، بما يتوافق مع النص النظري للمادية التاريخية، لا يقدم قراءة صحيحة للتحليل التاريخي، لأن العلاقة بين تحليل التاريخ وبين النظرية التي يسترشد بها التحليل، هي علاقة تفاعل. والنظريات لا تكون صائبة، إلا إذا انبثقت من رحم التاريخ، وأن تكون غايتها فهمه، ودعم "إمكانياتنا وتقدير دورنا في سير البشرية".

ومن خلال هذه الرؤية، أطر الراحل لمراحل تطور وعي العرب لهويتهم، مؤكدا على ارتباط الهوية العربية، في مراحلها الأولى باللغة، وببزوغ فجر الرسالة الإسلامية، وتلازم نزعة التحرر وروح البداوة، بمرحلة الانطلاق الحضاري للعرب. لقد أدت هذه العناصر إلى قيام نظام اجتماعي على أساس العصبية، وخلق روابط ثقافية واجتماعية عميقة بين القبائل العربية.

وبدين الإسلام ورسالته السمحة، تأسست أول دولة عربية مركزية، شجعت على المدنية. ووضعت أصول الدراسات العلمية. وتم فرض اللغة العربية في جميع الثغور الإسلامية. لكن تغليب الانتماء للقبيلة، أربك مفهوم الانتماء للأمة. فأصبح التنافر منتظرا بين الهوية القائمة على جعل الإسلام أساس مفهوم الأمة، وبين اعتبار النسب أساسا في تحديد الانتماء للأمة.

لم تستمر حالة الارتباك في الوعي العربي لمفهوم الهوية طويلا، فقد حسمت بنجاح الحركة العباسية ومشاركة أقوام من غير العرب فيها. وقد أدى ذلك إلى تضعضع أركان البنيان القبلي، ونجاح فكرة المساواة. وتحول مراكز التجمعات البشرية العربية، إلى مناطق حضرية ومراكز للثقافة، وبروز بغداد والبصرة كأعظم محطتين علميتين في ذلك العصر. لقد حلت اللغة والأرض والثقافة المشتركة، بديلا عن الانتماء للعرق والقبيلة.

ومع ضعف الوجود العربي اللاحق في مركز الخلاقة، والحواضر العربية، طغت هيمنة العناصر غير العربية، وكان ذلك بداية انهيار دولة الخلافة، وبروز أكثر من خلافة في دار الإسلام، والقضاء على الوحدة السياسية التي برزت في الحقبتين الأموية والعباسية، لكن فكرة الأمة الواحدة استمرت حلما عربيا. وفي مرحلة الانهيار الأولى برز التضاد بين خطي السلطة والنهضة، ففي الوقت الذي تداعى فيه خط السلطة، استمر خط النهضة البياني في الصعود.

لقد سادت لغات عدة بالبلدان التي اعتنقت الإسلام، لكن التلازم بين العروبة والإسلام في البلدان التي شكلت الأمة العربية المعاصرة. وبعد تراجع دولة الخلافة، تطاولت الجيوش الأجنبية على الأمة. ومر العرب بعقود طويلة من الانقطاع الحضاري. عند ذلك، تباعدت الخطوط بين انتشار العربية وانتشار الإسلام. وعندما سيطر العثمانيون على البلدان العربية، تراجع الدور العربي. وحين انهارت السلطنة كانت المقاومات الثقافية والحضارية للعرب قد انتابها الضعف، لكن ذلك لم يحل دون تصدي العرب للغزو الغربي، الذي عبرت عنه موقعة ميسلون، في أطراف دمشق بقيادة الشهيد يوسف العظمة.

وفي مطالع القرن التاسع عشر برزت حركة فكرية واسعة بالبلدان العربية، وأنشئت الجمعيات العلمية، وحدثت نهضة صحفية، ودعوات للتجديد، منادية بتحرير العقل من الخرافات والأوهام، وداعية إلى الوحدة بين المسلمين وإزالة الفوارق بين المذاهب الإسلامية، ورافضة الجهل والحكم المطلق، ومطالبة بالحرية السياسية.

لقد أسهمت هذه المقدمات في التطورات اللاحقة، عندما بدأ الكفاح العربي، إثر تكشف نتائج الحرب العالمية الأولى، والغدر البريطاني- الفرنسي وافتضاح أمر اتفاقية سايكس- بيكو بتقسيم المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا، ووعد بلفور، بقيام وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، في الكفاح من أجل الاستقلال، وبنهاية الستينيات من القرن المنصرم، كانت معظم البلدان العربية قد أنجزت استقلالها السياسي.

هكذا رأى الراحل الهوية كما في التاريخ، حركة فوارة مستمرة، تعود دائما إلى الجذور وتراكم عليها.

تغمد الله روح الفقيد بواسع رحمته،وألهم ذويه ومحبيه الصبر، وإنا لله وإنا إليه لراجعون.