يُستخدَم مصطلح «التغريب» Westernization في سياق المناهضة لفعل التحديث الاجتماعي والثقافي، ومقاومة المظاهر والممارسات التي تخالف ثقافة الانغلاق والتقليد والتشدد، في المملكة، وفي عموم العالم العربي والإسلامي.

فهو مصطلح يقصد الإدانة والتجريم لذلك التحديث ولتلك المظاهر والممارسات، والتشنيع عليها وتشويهها وإثارة الوجدان الديني والشعبي ضدها، بنسبتها إلى الغرب، أي أوروبا وأميركا؛ فهي «تغريب» أي فعل تحويل إلى الغرب، وتشبُّه به، وفناء فيه.

ولم تأت تلك الدلالة السلبية للتغريب: دلالة التجريم له وإدانته وتقبيحه، إلا بتعميم صورة سلبية عن الغرب تُخليه من كل قيمة وسمو، وتجمعه في صفات الكفر والإباحية والمادية وكراهية أمة العروبة والإسلام والعدوان عليها.

وهي الصورة المعمَّمة، في الوقت نفسه، في مقابل تعميم صورة طهرانية وانعزالية مفترضة للأمة العربية والإسلامية، تخليها من العيوب الثقافية والاجتماعية الذاتية، وتنفي عنها التجربة البشرية والتاريخية، متخيلةً لها نموذجية من منظورٍ للدين الإسلامي، ممتزجٍ بمذهبية وإيديولوجية وقومية ومناطقية محدَّدة.

وهذا سياق لتولُّد دلالة «التغريب» تتكوّن عناصره التاريخية من الصراع القديم مع «بني الأصفر» الذي كانت الحروب الصليبية ذروة آلامه ومراراته، وصولاً إلى الاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي حديثاً، ثم تلتقي مع تفاقم الشعور بالضعف والتخلف في عالمنا العربي والإسلامي إلى هذه اللحظة، أمام حضارة متسلطة ومبهرة في العلم والتقنية والإدارة والاتصال والفنون.

لذلك فإن الحاجة إلى منتجات التقدم الغربي، التي تفرض نقد الذات ولومها على العجز عن بلوغ مستوى تقدمه، أخذت الصراع الحضاري والثقافي معه إلى منطق انقلابي معاكس، لا ينتقد الذات أو يلومها، بل يمجدها بنرجسية مرضية، ويشتم الآخر الغربي شتيمة تنطوي على متناقضات الخوف منه والإعجاب به والكراهية له والحاجة إليه.

وهكذا كان مصطلح «التغريب» تعبيرا عن هذا المنطق الصراعي، يترامى إلى وضع حاجز بين الذات والغرب، في شعور بالرهاب، وخواف مرضي من استباحة حقيقة الذات وجوهرها.

ليس التغريب -ما دام الأمر كذلك- مصطلحاً علمياً أو قانونياً منضبطاً، له دلالته الصلبة الواضحة، وإنما هو مصطلح ثقافي، له مرونة ونسبية. وهو يدل -دون شك- ولكن دلالته مختلفة في الزمان والمكان وبين الاتجاهات الثقافية والفئات الاجتماعية.

فلقد كان الرفض للسيارة والدراجة والتلغراف والهاتف والراديو والتلفزيون، كما كان الرفض للتعليم النظامي للبنين قبل الرفض لتعليم البنات، وكان رفض تدريس اللغات الأوروبية وعلوم الهندسة والطبيعة والكيمياء والجغرافيا، منذ القرن التاسع عشر ومعظم العشرين، كان ذلك كله تعبيراً مبكراً حديثاً عن الرفض للغرب، والخوف من «التغريب».

ولكن الوعي الثقافي اتسع، لدى علماء الدين وعامة الناس، وانحسرت الفتاوى بشأن تلك الآلات والعلوم، لتتيح للناس في البلاد الإسلامية استخدامها وتعلمها دونما حرج. بل أصبح هناك قناعة بفوائدها، ومضت الحكومات وفق ذلك إلى تقدُّم محمود نحو التنمية والتحديث.

وعلى رغم ذلك، فقد أخذ مصطلح التغريب في التبلور والترسخ، ليغدو سلاحاً يستخدمه بعض الوعاظ وبعض التيارات الناشطة، في مقاومة التحديث الاجتماعي والثقافي ومقاومة المظاهر والممارسات الجديدة، بطريقة انتقائية.

وفي مقدمة الموضوعات التي تحارَب لدينا باسم التغريب، الموضوعات المتصلة بحقوق المرأة، ونستطيع أن نرصد ذلك في أحداث بعينها، مثل المعارضة لتعيينها عضوة مجلس عمومي، كمجلس الشورى، أو المجلس البلدي، أو عميدة لكلية الطب في إحدى الجامعات، أو عملها في الأسواق، أو السماح لها بقيادة السيارة.

ومثل ذلك معارضة الابتعاث للطلاب للدراسة في الخارج، ومعارضة فعاليات الترفيه، وحفلات الغناء، ومعارضة افتتاح صالات السينما.

فهي جميعا موضوعات محاربة باسم التغريب، بعد أن اصطدمت أحكام الفتاوى الغالية في تحريمها بفتاوى أكثر سعة واعتدالاً وأشمل استدلالا. وهذا يعني أن نسبة هذه الممارسات في مجتمعنا إلى الغرب هي أقصر طريق إلى التخويف منها وتجريمها واستنهاض رأي ديني وشعبي ضدها، بطريقة عاطفية وغير متعقلة.

ولا يستطيع أحد، بالبداهة، أن يخص الغرب بالاحترام لحقوق المرأة، أو تمكينها اجتماعيا بما ينم عن الثقة فيها، كما لا يمكن اتهام أي دراسة ما دامت تؤهل أبناءنا لما تحتاجه مجتمعاتنا من كفاءات، ولم تكن الموسيقا ولا الغناء ابتكارا غربيا، كما لم يكن الترفيه ولا السينما خصوصية غربية.

نستنتج من ذلك -إذن- أن «التغريب» مصطلح يستخدم بطريقة عاطفية، ولمقاصد دوغمائية وشعبوية ودعائية، وهي مقاصد يستعصي معها ضبط هذا المصطلح وعقلنة استخدامه؛ فالأحرى في ضوء الاستخدام الموصوف أعلاه أن نكون جميعا «تغريبيين» حتى من يستخدمون المصطلح لتصنيف غيرهم، ولن يبقى من أدواتنا ومظاهر حداثتنا في الزمن شيء خارج ما يوصف أو ما يمكن أن يوصف بالتغريب.

ويمكن الاستدلال على ذلك بـ«الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة»، فهي تعرِّف «التغريب»، بما يلي:

«هو تيار كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبغ حياة الأمم بعامة والمسلمين بخاصة بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية».

وأول ملمح في هذا التعريف دلالته على توهُّم وعي قصدي مختبئ للإساءة إلى الذات، وكأننا أمام مؤامرة، وهذا منطق معتاد في التهرب من تدبُّر التجربة التاريخية وموقع الذات المحتجَز في التقليد والانغلاق ورفض التجديد.

وإلى ذلك فإن التعريف يصدر عن توهم التغاير المطلق والقطيعة الكاملة بين الحضارات والثقافات الإنسانية، فلا مشتركات إنسانية وعقلانية وروحية بينها، ولا سوء أو قصور في حياة المسلمين، ولا خير أو حق في حياة الغربيين.

وبالطبع فلا يمكن لأحد أن يتصور الحضارات والثقافات الإنسانية في عزلة عن بعضها، فهي تتلاقح وتتثاقف ويربط بينها من المشتركات أكثر مما يفرقها من الاختلافات.

ولا أدري كيف يمكن أن تبقى لحضارتنا الإسلامية القديمة قيمة إيجابية، في ضوء هذا التعريف، وقد اغترفت من تراث فلاسفة الإغريق والهنود، وترجمت من العلوم، ونقلت من أساليب الإدارة، ورسخت من الأفكار الدنيوية الإنسانية، ما جعلها ترفد الغرب وتضيء طريقه للخروج من ظلام عصوره الوسطى.

ومن الواضح أن التغريب في هذا التعريف يعم كل المظاهر الحديثة والعصرية التي يعيشها المسلمون اليوم أو يحلمون بها.

وهذا الوضوح يزداد حين تذهب مادة «التغريب» في الموسوعة إلى الحديث عن أبرز الشخصيات التي أسست التغريب ومارسته، فتورد أسماء دعاة النهضة والإصلاح الإسلامي، أمثال: رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وخير الدين التونسي... وغيرهم.

إن التغريب الحقيقي هو بقاؤنا سوقاً لمنتجات التقدم الغربي والعالمي، وما يحفظ هويتنا وجوهرنا هو تحديث وجودنا الثقافي والاجتماعي من الداخل، والانخراط في عوالم العلم والتقنية والإدارة الحديثة.