منذ أن بدأت رحلة خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- في حله وترحاله إلى الشرق الآسيوي والأنظار في شتى أنحاء الأرض تتابع تفاصيل الرحلة ومجرياتها وما تتضمنه من مباحثات واتفاقيات وتفاهمات مختلفة على كافة الأصعدة، السياسية والاقتصادية المختلفة، وذلك لما تعنيه تلك الرحلة من توجهات مهمة ذات مغزى إستراتيجي عميق وبُعد سياسي واقتصادي جوهري، ستنعكس آثارها على كثير من دول العالم التي تتمتع بعلاقات سياسية واقتصادية متميزة مع المملكة، وذلك بدوره يرتبط بمكانة المملكة ووزنها وثقلها السياسي الإقليمي والدولي، وبما تسهم به في سياستها الخارجية من حفظ الأمن والسلام الدوليين، إلى جانب مساعيها الدؤوبة نحو حماية الاقتصاد العالمي والمحافظة عليه بمستوى من التوازن الدولي الآمن، وبما يعود بالنفع على كافة الدول المؤثرة ويحول دون تضرر الكثير من شعوب العالم واقتصاداتها كنتيجة لمفرزات الحركة الاقتصادية الدولية ومجريات التجارة الخارجية التي تسيطر على كثير من المجريات السياسية والعلاقات الاقتصادية الفاعلة على الساحة الدولية.
تعكس زيارة خادم الحرمين الشريفين إلى الشرق الآسيوي اهتماما وتجديدا في نوع وآلية العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية للمملكة مع نصفنا الشرقي الذي يشاطرنا رقعتنا الجغرافية من القارة الآسيوية في أقصى الشرق وجنوبه الجزري الذي يحتل بموقعه الجغرافي المتميز الممر المائي الأهم ما بين القارة الأسترالية في الطرف الجنوبي من الكرة الأرضية وبقية دول القارة الآسيوية بمختلف دولها، إذ تمثل كل من ماليزيا وإندونيسيا بموقعهما الإستراتيجي المتطرف من القارة الآسيوية في الجزء الجنوبي الشرقي من القارة الآسيوية البوابة اليابسة، وحلقة الاتصال ما بين المحيط الهادئ ودوله في الجزء الجنوبي منه، حيث دول أميركا الجنوبية كالأرجنتين وتشيلي، وبين الجنوب الآسيوي في دول الهند الصينية كتايلاند وميانمار وكمبوديا وفيتنام ثم الهند وباكستان، هذا ويمثل هذا الجزء بعدد سكانه عمق الإسلام العددي ومخزونه البشري الذي نُفاخر به العالم فيما يحتضنه من مسلمين يعتزون بدينهم ويسعون لإعلاء كلمته ويتمسكون بتعاليمه بصورة مُلفتة للانتباه، هذا بالإضافة إلى ما منحهم الله إياه من موارد طبيعية غنية ومتنوعة، تتطلع شعوبهم وقياداتهم من خلالها إلى تحالفات ومشاركات إسلامية تتعاون معهم في استثمارها بعيدا عن الاستنزاف الاقتصادي الذي عانوا منه من الشركات الأجنبية الغربية المتعددة الجنسيات، اتفاقيات مع دول حليفة أمينة تسعى إلى مصالح متبادلة ومنافع مستدامة من خلال شراكات وعلاقات اقتصادية مهمة يجني ثمارها كلا الطرفين، في ظل علاقات سياسية متينة يدعمها الدين المشترك والعلاقات التاريخية التي تجمع تلك الدول الإسلامية مع المملكة في منظومة دولية تجعل منهم قوة سياسية واقتصادية لها وزنها وثقلها الكبير على مستوى العالم.
وحيث إنه تربطنا علاقات مستمرة وحيّة مع الدول الإسلامية في ماليزيا وإندونيسيا على مستوى الدول والشعوب بمستوياتها المختلفة، فإنه يجدر بنا أن نلقي الضوء على الدولة الأكبر في ذلك الجزء من العالم الإسلامي وهي إندونيسيا التي تحتل المركز الرابع على مستوى دول العالم من حيث عدد السكان البالغ عددهم 260,581.100 مليون نسمة، وذلك بناء على إحصاءات الأمم المتحدة في يوليو 2016، والذين يتكلمون نحو 300 لغة ويتوزعون على مساحة 1.901.931 كلم2 ما بين جزر تصل في عددها إلى نحو 17.500 جزيرة تمتد في الجزء المتطرف من المحيط الهندي والمجاور للمحيط الهادئ في طرفه الغربي، وتتمتع إندونيسيا بثروات وموارد طبيعية متنوعة، منها الزراعي كالشاي والمطاط والأرز ونخيل الزيت، إذ تعتبر إندونيسيا المنتج الأول لزيت النخيل على مستوى العالم، ومنها المعدني كالنحاس والقصدير والفحم الصخري والغاز والذهب والصلب والنفط، الذي دفع نيكسون الرئيس الأميركي السابق إلى التصريح بأنه «الجائزة الكبرى» في إندونيسيا، وذلك بإيحاء إلى الفوائد التي ستجنيها الشركات الأميركية لصالحها من استخراجه، وغير ذلك من الموارد الطبيعية الكثيرة التي وهبها الله إياها، والذي جعلها لقمة سائغة استنزفت ثرواتها الشركات المتعددة الجنسيات من الدول الغربية ولصالحها الكامل مع إعفاءات ضريبية مُنحت لها بناء على سياسات سابقة وعلاقات دبلوماسية خدمت المصالح الغربية على حساب الشعب الذي تفشى بينه الجهل والفقر في ظل انعدام العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات على ذلك الكم الكبير من السكان، والذي دفع به إلى العمل في مهن متدنية المستوى مهنيا في الدول الأخرى، وذلك في الستينات والسبعينات من القرن السابق، حيث كان الاقتصاد الزراعي التقليدي هو السمة الغالبة لاقتصاد البلاد.
وسعيا نحو التطور والأخذ بمبادئ التنمية الحديثة، توجه الاقتصاد الإندونيسي في فترة التسعينات نحو الاهتمام بالصناعات القائمة على ما يمتلكونه من ثروات المواد الخام التي تزخر بها أرضهم، ومع الألفية الجديدة توجه الاقتصاد نحو الجانب الصناعي الخدمي من الصناعات التحويلية المتنوعة، والذي جعلها تحتل المرتبة الـ16 في اقتصاد العالم، والمرتبة الرابعة لأكبر اقتصاد في الشرق الآسيوي بعد الصين واليابان وكوريا الجنوبية، هذا بالإضافة إلى أنها إحدى دول العشرين التي تقود اقتصاد العالم، ونظرا لقوة ومتانة علاقاتها التجارية مع الغرب من حيث ارتفاع حجم صادراتها إليه، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة الاستهلاك الداخلي لحجم السكان الكبير، فإنها من الدول القلائل على مستوى العالم التي لم يلحقها ضرر من الأزمة المالية التي أثرت على الكثير من الاقتصادات العالمية في 2008، وتبعا لذلك التوجه الاقتصادي الصحيح في مساره المنتج فإن التنمية الاجتماعية والاقتصادية انعكست على كافة القطاعات، وتشير البيانات والإحصاءات الدولية إلى أن برامج مساعدة الفقراء وتوفير فرص عمل قد أسهم في تخفيض نسبة الفقر والبطالة إلى 11 % و6 % على التوالي لكل منهما في عام 2013، كما انخفض التضخم من 10 % في عام 2010 إلى 4 % عام 2013، وذلك مع ارتفاع متوازن ومستمر في نسبة النمو الاقتصادي بنسبة 5.5 % سنويا.
وفي ظل ما تتمتع به إندونيسيا من ثروات وموارد طبيعية وبشرية تتميز بوفرتها وتنتظر من يُحسِن استثمارها في إطار مشاركة اقتصادية تستند على قاعدة متينة يدعمها الدين المشترك والعلاقات التاريخية والسياسية المتميزة التي يُتوِجْها أن المملكة العربية السعودية بما منحها الله بفضله من خدمة الحرمين الشريفين، والعمل الدؤوب حريصة على حفظ حقوق المسلمين والتعاون مع دول العالم الإسلامي كافة لما فيه رفعة الإسلام وعلو شأنه، فإن جميع الاتفاقات السياسية والاستثمارات الاقتصادية والتحالفات التي عُقدت تصب في صالح العالم الإسلامي كافة، بل تحمل في طياتها بارقة أمل مشرق، وتحولا إستراتيجيا مهما في الدبلوماسية السعودية المتوازنة في علاقاتها الدولية الرفيعة المستوى، وتوجه محمود نحو عمقنا الإسلامي وتاريخنا الحضاري نحو تألق مقبل ومزيد من المكانة المرموقة، والثقل السياسي والاقتصادي للعالم الإسلامي برمته.