أهم الصفات التي أتقاطع فيها مع الدكتور عبدالرحمن الجرعي، أستاذ الفقه بجامعة الملك خالد، هي الشغف بالتراث الأدبي، إلى الحد الذي يجعل قراءة كتاب من كتب التراث، تساوي عندي في متعتها مشاهدة فيلم سينمائي مشوق، أو مباراة بين: النصر، والهلال.

أزعم أن د. الجرعي يقرأ في التراث الأدبي أكثر من قراءاته في تخصصه، فكلما التقيت به سمعت منه مروية أو أبياتا تجعلني أعود إلى نفسي فأتهم حصاتي، ثم أحاول استدراك ما فاتني فيما أنا به أولى منه وألصق.

غير مرة، قلت لبعض الأصدقاء إن د. الجرعي دخل إلى قسم الفقه بـ«الغلط»، أو أنه مجبر على ذلك القسم، فعلى الرغم من براعته الفائقة في تخصصه، إلا أن شغفه بالأدب جعلني أجزم بأنه كان يتمنى دراسة اللغة والأدب، فخالفوني الرأي، واحتجوا لآرائهم بحجج لم تقنعني.

بقي رأيي هذا قولا قابلا للرد والنفي، حتى قرأت كتابه السيري: «شذرات سيرية»، قراءة المستمتع المحب، وقراءة من يحاول الربط بين: الشخصية التي يعرفها، وما كتبته عن ذاتها، وقراءة من يبتسم حين يجد في أثناء السرد ذي اللغة الممتعة اليسيرة لفظة تراثية كأنها الفرس الأبلق في الدهم العراب، وقراءة من يبحث عن اعترافات لم يجد منها سوى الاعتراف بعدم الاهتمام بالمذاكرة، وبرغمه بقي المهمل متفوقا، وهو اعترافٌ كعدمه، فـ«كلنا ذاك الرجل».

وفي أثناء القراءة، وجدت ما يؤكد قولي بأن د. الجرعي دخل إلى قسم الفقه بـ«الغلط»، أو بـ«الغصب»، فصورت الصفحة، وأرسلتها لأناكف بها، وأمازح أصدقائي المختلفين معي حول هذا القول، وكله من باب: «يعني إني أستطيع فهم الميول المبكرة».

يقول الجرعي جاعلا الكاتب راويا عن غائب: «حين حان موعد السفر إلى المدينة للتسجيل في الجامعة نازعته عدة رغبات: رغبة جامحة في نفسه، ورغبة أكثر زملائه، ورغبة والده ذي النظر الثاقب. أسقط أولاً رغبة زملائه، وقال لنفسه في لحظة صدق وشجاعة: المجاملات لا مكان لها هنا، فأنا من يدرس لا هم. وبقي يراوح بين رغبة والده ذات البعد الإستراتيجي -كما صار يسميها فيما بعد- وبين رغبته الجامحة، غلب عليه تقدير أبيه، وقال لنفسه: طاعة الوالد فيها كل الخير، أدرك صحة اختياره بعد زمن يسير، وأقنع نفسه بأن إشباع رغبته في التخصص الذي كان يطمح إليه يمكن تحصيله بالمطالعة والتثقيف الذاتي».

ومن الواضح أن سير بعض أعلام بيئة الجرعي التي أوردها في شذراته، هي التي جعلت والده يوجهه إلى دراسة الفقه؛ لأن للقدوات في البيئات المحلية أثرا كبيرا، فضلا عما لأسرة الكاتب من تاريخ في العلم الشرعي كما أعرف.

الأهم من هذا التعليل هو أن الجرعي قد تصالح مع التخصص الذي لم يكن يرغبه في البدء الأول، ونجح فيه نجاحا مبهرا حتى وصل إلى درجة الأستاذية في مدة وجيزة، وفي المقابل أشبع شغفه بالأدب حتى فاق فيه بعضَ المتخصصين، ولم يعد ينقصه سوى الإلمام بالنظريات والمناهج النقدية الحديثة والمتجددة.

في شذرات الجرعي أكثر من درس حياتي، وأهمها هذا الدرس الذي صرت أردده -بوصفه أنموذجا- على مسامع أبنائي وأصدقائي الطلاب حين يبررون عدم رغبتهم في الدراسة، بأن عمادة القبول قد ألقت بهم في تخصصات لا يرغبونها، فأقول لهم: انظروا مثلا إلى د. الجرعي، ثم أفتح جوالي، وأقرأ عليهم ما اقتبسته أعلاه من سيرته.

لي حول شذرات الجرعي رأي نقدي فني لا تكفيه مساحة هذا المقال، ولعله يكون قريبا.