يشكل التعليم الجامعي في كل دولة مرتكزا رئيسيا لخطط التنمية، ودعامة أولى للاستثمار البشري والمعرفي، ولذا تحتاج مؤسساته وأنظمته إلى الإصلاح والتطوير من حين إلى آخر، حتى يغدو مواكبا لخطط التنمية المتغيرة والمستمرة للدولة، ومتسقا مع التطورات العالمية في مجال العلوم والمعارف.

والتعليم الجامعي في المملكة، رغم ما شهدته السنوات الأخيرة من تغيير في المقررات والبرامج، وتطوير في الأنظمة واللوائح؛ طلبا للحصول على الاعتماد الأكاديمي، مازال يعاني من بيروقراطية الأنظمة، وضعف المخرجات عما هو متوقع.

ولأن الحال كذلك فمن الملزم اليوم السعي إلى تطويره تطويرا شاملا من الجانبين الإداري والأكاديمي، ويمكن في ذلك الإفادة من التجارب المختلفة لدول العالم من حولنا. وهنا أذكر تجربة (الإصلاح البيدغوجي للتعليم العالي) في المغرب العربي مثلا، وهي تجربة جادة يمكن تأملها والإفادة منها.

يقوم مشروع (الإصلاح البيدغوجي) الذي أقرّ عام 2002 على مبدأ استقلالية الجامعة وقدرتها على إدارة نفسها، بحيث تصبح كل جامعة منافسا قويا للجامعات الأخرى. ولأن الجامعة مؤسسة تمتثل للاحتياج المناطقي، فإن برامج الدراسة والتخصصات المطروحة فيها تخضع لاحتياج الإقليم الذي تقع فيه؛ فالأرياف والمناطق الزراعية ومناطق الانتاج الحيواني تحتاج إلى تخصصات جامعية تختلف عن تلك التي تتوفر في المناطق السياحية مثلا، ومن هنا فإنه لا مجال لافتتاح قسم (اللغة العربية) في ثلاث جامعات في منطقة واحدة مثلما هي الحال عندنا (جامعة الملك سعود/‏‏ جامعة الإمام/‏‏ جامعة الأميرة نورة) في الرياض مثلا. فالتمايز بين الجامعات في التخصصات هو رهان كل جامعة في اجتذاب الطلاب الراغبين في تخصصاتها، وفي تركيز برامجها، مما يتيح مجال المنافسة ويعزز جودة المخرجات.

ولأن الجامعة هي المؤسسة المخولة بالبحث العلمي فإن الإصلاح البيدغوجي يراعي احتساب البحث العلمي في أنصبة الأساتذة الجامعيين، بحيث يشمل نصاب الأستاذ ساعات البحث مع ساعات التدريس، فإذا كان نصاب (الأستاذ الجامعي مساعد) 14 ساعة أسبوعيا فإنها تقسم على التدريس الأكاديمي وعلى البحث العلمي. فالوزارة تدرك أن البحث داخل في متطلبات ترقية الأساتذة الجامعيين، وأن عملهم بذلك يختلف عن عمل المعلمين في التعليم العام، الذين لا يشترط في ترقيتهم التقدم ببحوث علمية محكّمة، ويكفيهم في ذلك استكمال النصاب التدريسي.

وتقوم على البحث العلمي الأكاديمي في المغرب مخابر بحثية تشرف عليها، وتمولها وزارة التعليم العالي، وتشارك نقابة الأساتذة الجامعيين في وضع برامجها ومراقبة منجزاتها البحثية كل عام. هذه المخابر أيضا توفر بيئة جاذبة ومنافسة، فالأساتذة يشتركون في برامجها البحثية المعلنة من كافة الجامعات، على مستوى الدولة، وتحدد الاهتمامات بحسب تخصص الكلية لا بحسب القسم؛ فأساتذة كليات العلوم الإنسانية، في عدة جامعات مغربية يمكنهم الانخراط في مشروع بحثي مشترك، ينافسون فيه فريقا آخر من الكليات نفسها يقوم على مشروع بحثي آخر.

ولأن الأستاذ الجامعي أكاديمي وباحث فإن مواده التدريسية قد تطرح في فصل دراسي ولا تطرح في الفصل الثاني، من العام الجامعي نفسه، أو يطرح بعضها فقط، بحيث تتاح له فرصة البحث، أو التنقل بين الجامعات المغربية والعربية والعالمية بصفة أستاذ زائر، وهذا يزيد من غنى تجربته الأكاديمية، ويتيح للجامعات الإفادة من تبادل الخبرات البشرية والعلمية.

هذا بعض ما يتسع له المقال حول تجربة المغرب العربي في إصلاح مؤسسات التعليم العالي، وهي تجربة غنية لا يكفي مقال صحفي لاستيعابها، على كل حال.