قبل يومين تم تتويج زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى اليابان بالتوقيع على 10 اتفاقيات أهمها مذكرة التعاون في مجال الثورة الصناعية الرابعة بين مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية ووزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية، لتنضم المملكة، كأول دولة في الشرق الأوسط والعالم العربي، إلى نادي تقنيات النانو والذكاء الاصطناعي والروبوتات الآلية والتقنية الحيوية وتنظيم السجلات الطبية. ومن المتعارف عليه أن اليابان حققت المرتبة الأولى عالمياً في معظم هذه المجالات المعقدة، ففي مجال الذكاء الاصطناعي تقوم اليابان حالياً ببناء أسرع حاسوب خارق في العالم بقيمة 170 مليون دولار أميركي ليقوم بحوالي 130 ألف تريليون عملية حسابية في الثانية، ليحاكي المسارات العصبية في الدماغ البشري ويساعد المصانع على تطوير وتحسين وسائل النقل الذكية والروبوتات والتشخيص الطبي.
وفي مجال الروبوتات الآلية حققت اليابان خلال العام الماضي المركز الثاني بعد الصين في صادراتها بمقدار 25300 روبوت، تلتها أميركا بعدد 22410 روبوتات، ثم كوريا الجنوبية بعدد 21400 روبوت. ويشكل عدد الروبوتات في المصانع اليابانية 323 روبوتا لكل 10 آلاف عامل مقارنة مع 30 روبوتا في الصين، و 282 في ألمانيا، و152 في أميركا.
وفي مجال تقنية النانو التي اكتشف مبادئها الفيزيائي الياباني «سوميو إيجيما» في عام 1991، وتم خلال العقد الماضي استثمار 23 مليار دولار أميركي لتنميتها في الشرق الأقصى، فأصبحت اليابان اليوم من أكثر الدول تقدماً في حقولها المختلفة، التي تشمل المعدات الإلكترونية والكهربائية والبطاريات والرقاقات متناهية الصغر.
وفي مجال التقنية الحيوية حققت اليابان المركز الثالث عالمياً بعدد أبحاثها بعد أميركا والصين، وذلك بإصدار 3196 بحثاً في العام الماضي، تلتها بريطانيا بعدد 2900 بحث، ونجحت اليابان في تعظيم استفادتها من هذه التقنية لعلاج أمراض القلب والسرطان والشيخوخة وغيرها من الأمراض المستعصية.
ومنذ الثورة الصناعية الأولى التي شهدتها بريطانيا في القرن الثامن عشر، بدأ العالم يتحول إلى عصر التقنية والصناعات الحديثة، ليتم من خلاله إحلال العمل اليدوي بالآلة، وانعكس هذا الأمر بشكل واضح على حياة الإنسان ورفاهيته وكفاءة عمله. وتزامن ظهور الآلات وانتشارها الكبير مع الاحتياج إلى مصادر جديدة من الطاقة، تم استخدام الفحم الحجري ثم البخار ثم الكهرباء من أجل تشغيل المحركات والآلات والسفن والقاطرات.
وفي منتصف القرن التاسع عشر بدأت الثورة الصناعية الثانية، التي عرفت باسم الثورة التقنية، وساهمت باكتشاف طريقة تصنيع الحديد الصلب والبخار والمنسوجات والكهرباء والمواد الكيميائية، التي ساهمت في إنتاج النظم التقنية الحديثة مثل الاتصالات وشبكات الغاز والمياه والصرف الصحي والسكك الحديدية والهواتف.
واليوم نحن نعيش عصر الثورة الصناعية الثالثة، القائمة على التصنيع الرقمي والبرمجيات المتطورة والأساليب الجديدة في التصنيع، التي ارتبطت بخدمات الاتصالات وتقنية المعلومات. لذا اتجهنا إلى اليابان للاستفادة من تقدمها في مجالات الثورة الصناعية الرابعة، التي ستعتمد في المستقبل القريب على زيادة القدرة التنافسية للصناعات التحويلية من خلال زيادة دمج الأنظمة الإلكترونية الفيزيائية مع عمليات التصنيع والتحكم بها إلكترونياً. وهذه الأنظمة تتكون من الآلات الذكية المتصلة بالإنترنت، لتقوم بعمليات الإنتاج بأقل قدر من الأخطاء، إضافةً إلى تغير أنماط الإنتاج بشكل مستقل وذاتي وفقاً للمدخلات الخارجية التي تحصل عليها مع احتفاظها بدرجة عالية من الكفاءة.
وبهذا يصبح الذكاء الاصطناعي والروبوتات وتقنية النانو والتحكم في الجينات بمثابة التقدم التقني الذي سيغير في تفاصيل الثورة الرقمية، وفضاء التفاعل الرقمي، ليقتصر الدور البشري في الصناعة على المراقبة والتدقيق فقط، لنشاهد العديد من السيارات ذاتية القيادة والطائرات المسيرة بدون طيار وبرمجيات الترجمة الرقمية.
ومن هذا المنطلق بادرت المملكة واليابان في استغلال نظرية التكامل الاقتصادي بينهما، التي أدت إلى إبرام 10 اتفاقيات تهدف إلى دمج عناصر المزايا التنافسية لليابان مع مقومات المزايا النسبية التي تتمتع بها المملكة، لنحقق سوياً النجاح في زيادة الدخل الصافي لاقتصاداتنا وكسب الأسواق العالمية لصالح صادراتنا. فاليابان التي تستورد من المملكة 37% من احتياجاتها النفطية ستزداد قدراتها التسويقية مع المملكة، لتشكل عقول أبنائنا وسواعد أجيالنا المقومات الأساسية لتصنيع وتسويق أفضل منتجات الثورة الصناعية الرابعة وأعقد أجهزتها، مما يؤهل التكامل الاقتصادي بين الدولتين الصديقتين ويدفعهما قدماً لتطوير الصناعة والتقنية والكفاءة الإنتاجية وفتح المزيد من الأسواق العالمية لتنمية صادراتهما وتجارتهما.
ونظراً لأن الثورة الصناعية الرابعة تزخر بالإيجابيات، إلى جانب توفيرها فرصا واسعة للمجتمعات البشرية لتحقيق المعدلات العالية من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية معاً، فإنها أيضاً تربط العلوم الفيزيائية والمادية بالتقنية الرقمية والبيولوجية لتخفيض تكاليف الإنتاج وتأمين خدمات النقل والاتصال والجمع بين الكفاءة العالية والثمن القليل واختصار الوقت. لذا تتميز هذه الثورة الصناعية بسرعة تطورها وتضاعف حجم فوائدها وابتكاراتها.
وهكذا تستمر المملكة في حصد نتائج تطبيقها لمبادئ التجارة الحرة واقتصاد السوق، لتقفز خلال برنامج التحول الوطني للمرتبة 15 ضمن الاقتصاديات الأكبر في العالم، وتحقق المركز الثالث بين الدول الأسرع نمواً في القرية الكونية بعد الصين والهند. واليوم تنجح السعودية في توجيه دفة العولمة لصالحها، باتفاقها مع اليابان لتعزيز تكاملها الاقتصادي في الأسواق العالمية المتنامية، ولتتجه في الأيام القادمة إلى الصين وجنوب كوريا أيضاً، فأول الغيث قطرة.