عندما تظل الحالة الجمعية على نسق ثابت ساكن، لا يتفاعل مع ديالكتيك الحياة وجدلية الواقع وحوارية الثقافة المنتجة لفترة طويلة، بل إنه يرتد أحيانا إلى مستويات منخفضة، تفتقد كل سمات البيئات الناضجة والمجتمعات الحضارية، فإنك يمكن أن تستقرئ -وأنت الذي تؤمن بأقدار الله- ما يمكن أن يحدث من وقائع ومشاهد خلال فترات زمنية قادمة (ولن تكون بعيدة على كل حال) كالتالي: نستيقظ ذات صباحات مألوفة فنجد أن أبناءنا وبناتنا قد نسوا تماما مفردات طبيعية مثل: (شجرة- أغصان-وارفات- نخلة- وردة..)، فلا تتعجب على الإطلاق عندما تسأل ناشئا في نهاية مرحلته الدراسية الابتدائية عن ماهية الأشجار أو الورود؟ فيجيبك محتارا بأنها ربما تكون أسماء لمراكز تجارية أو أجهزة اتصال جديدة أو لعبة إلكترونية حديثة، لأننا في حالة اكتفائنا الاجتماعي من صخب الفنون الجميلة كالرسم والموسيقى والسينما والمسرح، والتي تزخر بها ميادين البلاد ومراكزها الأدبية والثقافية، قررنا أن نكتفي بتلك الفنون البشرية عن فنون طبيعية (ربانية) كالأشجار والحدائق والنخيل من أجل خاطر المراكز التجارية التي تخلو منها مدننا، مقارنة بالمراكز الثقافية والاجتماعية، فلا بأس من خلو مدننا من رائحة وردة وصوت حفيف شجرة، في غمرة ذلك الحراك الجمالي الذي يجعلنا نحتار كل ليلة.. إلى أي مسرح نتجه؟ وأي فيلم فني نختار؟ وأية مكتبة (مدبولية) نضعها في برنامجنا اليومي؟ والدليل أن أبناءنا في المدارس يعرفون الأسس الفنية للمسرح، بمجرد ما يواجههم هذا الفن في أحد مقرراتهم الدراسية، بل إن إمكاناتهم المسرحية أصبحت تمكنهم من إلقاء آرائهم بوضوح وجرأة في البرامج الإذاعية والنشاطات الثقافية داخل المدرسة! فما المشكلة إذن عندما تختفي الأشجار من الوجود والذهنية العامة (بسياقاتها اللغوية المعجمية الطبيعية المتنوعة) من أجل مكاسب الوطنيين المخلصين من رجال الأعمال؟! وفي صباحات أخرى (حزينة) ستجدنا نستيقظ على فتوى جديدة عن منع الاختلاط في المقابر، فلا بد من مقابر خاصة بالرجال وأخرى بالنساء، تفاعلا مع خصوصيتنا المحلية! لأنه يمكن لأرواح الموتى الساكنة على حدود القبور أن تتزاور، غير مفرقة بين أجسادها الذكورية والأنثوية، ليحدث عندها نوع من أنواع الاختلاط في غفلة من الأحياء (المشارك أهمهم في المؤتمرات العالمية)!! يمكن أن يحدث كذلك أن يتهافت المواطنون -مع تلك التكاليف التي يجدون أرقامها الفلكية على أوراق فواتيرهم المفزعة- على شراء المولدات الكهربائية القديمة التي لا يزال صوتها الأثير يصدح في البساتين القصية، والتي سيزداد سعرها إلى أضعاف ثمنها الحقيقي،وبذلك سيضطر المواطنون لتجديد علاقاتهم مع أقربائهم في الهجر القريبة التي لا تزال تحتفظ برقة الجدران الطينية، وبقايا ضياء قمري في ليالي (الحلك)! ويمكن في لحظة استشرافية قادمة أن يعود المرضى وذووهم للبحث عن (سعوط) الجدات، طلبا للشفاء من كافة الأمراض، بإذن الله، فإن نفعت كما كان في الزمن الغابر، وإلا فالموت سيكون أرحم وأخف وطأة من الموت بسبب مرض وخطأ طبي معا (موت وخراب ديار) بفعل فاعل، خاصة بعد استمرار مشاهدة المواطنين مسلسل الأخطاء الطبية الذي لا ينتهي، وبالتالي فإن احتمالية إغلاق مستشفيات وزارة الصحة تظل واردة مع تناقص أعداد المراجعين الذين ما زالوا يأتون إلى تلك المشافي، كما يذهب أبناؤهم إلى المدارس التعليمية تماما.. تأدية لواجب نداءات الذات البائسة للبحث عن الخلاص! ومن الممكن في لحظة مستقبلية أخرى أن يتأكد فشل محاولات استغلال المثقفين لخطابهم الثقافي في الحصول على المال والنفوذ والجاه والهيمنة وثقة المجتمع، ليرضوا عندها بالواقع الحتمي، ويعودوا من جديد إلى عالمهم اليوتيوبي الأثير، قانعين من الغنيمة (بالإياب)، وبأنهم إذا لم يحصلوا على كل تلك الامتيازات المادية فهم -حتما- لن يقدموا للمجتمع إرهابيين أو متطرفين، ولن يستغلوا هيمنة الخطاب لجمع الملايين، وإرسالها إلى القادة المتطرفين الأشداء المتربصين بالجوار، وبالتأكيد فلن يبيحوا دماء إخوانهم الذين يخالفونهم الرأي والفتوى! وفي لحظة تختص بالمكتسبات المادية فإني أتوقع أن يكون أسوأ أيام الشهر لدى المواطن هو يوم استلام (الراتب) الشهري، باعتباره يوما للخسارة والألم والضياع من جديد، ومن الممكن في هذه الأثناء أن تؤدي نظرات الحيرة والوجع في عين المواطنين وهم يوقعون مسيرات رواتبهم إلى كثير من الأمراض النفسية المستعصية، وإلى مزيد من الحنق والبغض للأثرياء أصحاب الأقساط المستحقة وملاك البنوك.. تخيلوا أن يرى مواطن راتبه على الورق 15 ألف ريال، لكنه يختزل في كل مرة إلى 3 آلاف، ومسيرة أخرى جديدة من الديون المذلة!...(وبس)..!