من زاوية بعيدة عن كل الضجيج «الإلكتروني» الذي سببه فاتح قرطبة الجديد وداعية إسبانيا الأخير، لفت نظري بؤس وخيبة يعلوان ملامح إحدى العجائز في صالة انتظار ما وهي تشاهد التسجيلات التي أثارت تلك الضجة، وابنتها تنتقل بكلامه بين التذمر والتبرير. تبدو تلك السيدة في منتصف الستين من عمرها، وتفتح غطاء سميكا من على فتحة تثقب غطاء وجهها لتشاهد الفيديو بشكل متقطع فاقترحت عليها أن ترفع الغطاء كله فنحن في صالة نساء ولا يوجد رجال بيننا. لم أتفاجأ كثيرا بكل ذاك الإحباط الذي خالط نور وجهها وغاص عميقا بين تجاعيد سنينها. ووجدت في الصمت الذي ران بعد حوقلتها عند انتهاء المشاهدة فرصة لأبدأ معها حديثا يستشف ما في روحها تلك اللحظة.
بعامية بسيطة أجابتني السيدة العجوز عندما سألتها عن رأيها فيما رأت بدعوة في البدء تطلب الله فيها الستر والعافية، ثم قالت جازمة إنه ربما «ضُحك» عليه للذهاب هناك، لم أقاطع استرسالها، فعلقت بنفسها على تبريرها أنه كان مبتسما ومنشرحا، وهي لم تعرفه إلا بكاءً محذرا ساخطا مما ظهر فيه من اختلاط وموسيقى. وحتى أخرجها من وجوم الخيبة الذي سيطر عليها مجددا سألتها عن حياتها في صباها قبل أربعين عاما. لمعت عيناها بوميض حنين دافئ لذاكرة بعيدة، وقالت ما سمعناه مرارا من أمهاتنا وجداتنا: كنا في الحقول نشارك في زراعة الحياة وجلب مائها، ونرعى شياهنا القليلة، ونجمع ما يوقد نارنا دون خوف من ظهور رجل أمامنا أو تردد أن نلقي التحية والسؤال أو نشاركه العمل، دون أن يقف بيننا وبين الله حجاب من ظن أو تخوين أو سوء نية، أو أن نخجل نحن وأهلونا من وجوهنا وأسمائنا وبناتنا ونراها عارا لابد أن يعزل ويوضع في مرتبة من الحق أدنى. والآن؟
كان صمتها غضوبا وهي تفكر من أي زاوية تجيب عن سؤالي هذا، ولكنها آثرت أن تعطيني شواهد مباشرة للآن الذي سألت عنه فقالت: لدي ابنة تصغر هذه التي معي في المنزل رفض إخوتها عملها، لأنه في مكان مختلط، رغم نجاحها بتفوق وحبها للدراسة، وهذه تركتها مبكرا لأنها اقتنعت أنه ليس للمرأة إلا بيت أهلها ثم بيت زوجها ثم قبرها، والزوج لم يأت والحال يعلم به الله. انتهى حديثنا المقتضب وتلك الفتاة رفقتها تبرر مجددا أنه «مضحوك» عليه، بينما تقسم السيدة والدتها وهي تنهض متثاقلة أننا نحن من ضُحك علينا وتغادر المكان الذي جمعنا.
قد يكون انتشار فيديو الداعية الشهير في حفل مختلط في إسبانيا فرصة لدى البعض لتصفية حسابات التيارات، أو فرصة لخوض ساحات صراع افتراضية وسجالات فكرية موهومة لا نخرج منها بفائدة في العادة. لكن أثره في نفوس من كان يؤمن ويؤمّن على كل ما يقول ذلك الشيخ في برامجه ومحاضراته وفتاواه أشد وقعا بقسوته، لا أعني من غيب عقله واستقلاليته وانبرى للدفاع عما حدث باعتباره مؤامرة «تغريبية» أو محاولة «ليبرالية» للإيقاع بالفاعل، بل أعني البسطاء ممن أسلموا حياتهم بالمجمل لمثل قناعاته، وصاغوا حياتهم على مقاييس ما افترضوه من حلال وحرام؛ ثم اكتشفوا وقد مضى بهم الانقياد لآخر العمر أن تلك القناعات فضفاضة لا تقوم على أسس ثابتة وأصيلة، كالإيمان في صدور العجائز الذي لا ينقص، وأن الحلال والحرام يختلفان باختلاف المكان والزمان، وما يقال داخل البلد لا يقال خارجه، والطريقة التي تُعامل بها المرأة وينظر لها، ويفكر فيها هنا تختلف تماما عن تلك التي تحظى بها المرأة في كل أنحاء العالم.
هل على الناس أن يستوعبوا الدرس بعد تكرار مثل هذه المواقف التي تظهر ازدواجية فادحة في التعامل مع المرأة بين الداخل والخارج، أم أنه يجب أن يكون هناك مكاشفة بين المجتمع ومن سخروا منه بتناقضاتهم، تُصحح فيها المغالطات، ويُصحح فيها التعامل المشوه مع القيم الإسلامية التي اتخذت وسيلة لقمع المرأة وإخضاعها.
حينما نقول هنا قمع وإخضاع المرأة، فنحن نتحدث أيضا من زاوية بعيدة عن نوافذ الفضاء الإلكترونية، التي يبدو فيها الجميع مثاليا ويعيش حياة متوازنة بين الحقوق والواجبات تجاه المرأة، زاوية لو صح عليها القول شعبوية أكثر وملتصقة بالشارع وبالأسر الصامتة والنساء المغيبات عن ذلك الفضاء، نساء ما زلن يعانين من التعنيف النفسي والجسدي من أحد الرجال المقربين ولا تجد قانونا واضحا يحميها ويأخذ بحقها بعيدا عن البقاء في أروقة المحاكم والنزاعات الأسرية والقبلية سنين طوالا، نساء مطلقات أو معلقات ومهملات يتعففن عن الشكوى والطلب ولا يجدن بابا يُنصفهن مباشرة دون عناء السلطة الذكورية ليطرقنه ثم يغلق ألف مرة، وقد لا يفتح أبدا وتبقى إحداهن تمضغ ألمها وحرمانها طيلة العمر، فتيات عاطلات عن العمل، أو توقفن عن الدراسة، أو حرمن من الزواج لاعتراض «ذكر» ما في أسرهن على ما تريده لأنها «عارٌ» محتمل. ونساء حرمن من حقهن في الإرث، إما لتواتر العرف أنه من العيب أن تطالب بحقها، فالرجال به أولى! أو لأنه ليس لها حق لدى البعض! ونساء يعملن في نفس المهن التي يعمل بها الراجل، ولكن برواتب ومزايا أقل، بالرغم من أنهن يبذلن نفس القدر الذي يبذلونه من الجهد والعمل وربما أكثر، بالإضافة لعملهن في المنزل وتربية الأطفال وإنفاقهن على أنفسهن وعليهم وعلى مواصلاتها التي حرمن من حقهن الطبيعي فيها.
حينما تطالب المرأة السعودية بأن يعاملها من يحجمون دورها ويحذرون منها وهم مزدوجو التعامل مع غيرها من نساء العالم، فهي لا تطالب بغير الإنصاف وما يحق لها من حماية، ورعاية، وتعليم، وعمل، وإنفاق، واحترام، ورقي في التعامل، بينها وبين الرجل الذي صورت حياتهما لو اختلطا في عمل أو طريق أو محفل في بيئتنا بأنه دمار للأخلاق والقيم، وكأننا مجتمع طارئ على الدين وعلى الأخلاق.