تملكني خجل ممزوج بالغضب، عندما شاهدت التصرف الأرعن الذي قام به ابن وطني المخرب، المسمى كذبا بـ«المحتسب»، من إهانة وصراخ واعتداء على الممتلكات العامة في الجناح الماليزي «ضيف الشرف» في معرض الكتاب بالرياض الأسبوع الماضي. وتعاظم هذا الشعور وأنا أسمع السيدة الماليزية تردد: «يا إلهي كيف يعاملنا هكذا، نحن ضيوف الشرف؟!». فهذا الآثم تطاول على إخوة الدين، الذين زرت بلدهم الجميلة -أربع مرات- في الماضي فلم أجد على صعيد شخصي إلا كل لطف ومودة، أما على صعيد رسمي فقبل أقل من أسبوع كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله- في العاصمة الماليزية، يلقى كل حفاوة وتكريم، لشخصه المميز وللثقل العربي والإسلامي الذي تمثله دولته، فبأي حق يدنس موتور هذه العلاقة الجميلة بين الطرفين؟

دافع الكثيرون عن هذا المعتدي، بدعوى الغيرة على الدين، ويبدو أنهم يعنون دينا غير الذي نتبعه. ففي الدين الذي نعرفه ونؤمن به، رقص الأحباش في «المسجد»، وبال الأعرابي في «المسجد»، وتم كل ذلك في حضرة النبي صلى الله عليهم وسلم، فشاهد العرض الفلكلوري لأهل إفريقيا مع زوجته -رضي الله عنها-، ولم ينهر الثاني، وإنما علمه برفق. فلو افترضنا أن ما قام به الماليزيون المسلمون المحافظون مخالف للشرع، فهل هذه طريقة شرعية لإنكار المنكر؟ وهل هؤلاء هم الأشخاص الذين ينبغي التوجه لهم لمناصحتهم؟ أم يفترض التوجه بالشكوى لإدارة المعرض، ووزارة الإعلام لأنها من أعطى التصاريح؟

حتى على صعيد مجتمعي، عندما يقوم ابنك وابن ضيفك بتخريب شيء في بيتك، فإنك عادة توبخ ابنك وتحمله المسؤولية، وتتغاضى عن ابن الضيف احتراما لذويه، هكذا تربينا، فالكرم وخاصة للضيف، صفة عربية أصيلة في جزيرة العرب منذ ما قبل عصر النبوة والرسالة.

لكن للأمانة، هل تصرفه كان مستغربا؟ بصراحة لا. فهذه ليست المرة الأولى التي يقوم فيها أعداء الثقافة والمعرفة والفنون، وأعداء الحياة، ومن نصبوا أنفسهم أولياء وأوصياء وحكماء وأنبياء على خلق الله، بالتشويش أو التخريب على الفعاليات العامة أو الخاصة، لا سيما في معارض الكتاب في العاصمة. ولهم موقف سابق في الجنادرية مع الوفد الإماراتي قبل بضعة أعوام. هذه المرة كان الأمر مزعجا، لأنه حصل مع إخوة وضيوف مدعوين وبأسلوب غير مقبول، مهما كانت المبررات. لكن هذا الشاب وأمثاله نتيجة ثقافة خاطئة تم غرسها منذ الصغر، سواء ما يتعلق بتعريف المنكر، وكيفية إنكاره.

هؤلاء تعلموا بأن المنكر هو أي شيء يدخل فيه الفنون أو توجد فيه المرأة، فتراهم يتشنجون ويتوترون من الحفلات الغنائية، وما يعتبرونه اختلاطا، وهي بالمناسبة كلمة لا توجد في كتب الفقه المعتبرة، والسينما والمسرح والمسابقات والمهرجانات وغيرها. ولكنهم لا يتأثرون كثيرا لدرجة الأخذ على يد المفسد، عندما يرون رجلا يضرب امرأة، أو امرأة تظلم خادمتها، أو شبابا يسيئون إلى مغترب، أو أطفالا يعذبون الحيوانات، أو رئيسا يمارس الفساد الإداري والتمييز الوظيفي، أو تاجرا يغش برغم الآية الكريمة «ويل للمططفين»، فهذه الأمور يبدو أنها لم تنتهك حرمات الله بقدر ما فعلته رقصة شعبية لرجل ماليزي بزيه التقليدي.

نحن كمجتمع سعودي نرفض وبشدة كل دخيل من المجتمعات الأخرى، ونطلب من الآخرين احترام خصوصياتنا وثقافتنا، ونعتبر أي حضور لثقافة خارجية، حتى لو كانت عربية أو إسلامية، تعديا وتغريبا. لكننا بالمقابل، نحمل ثقافتنا معنا أينما حللنا، بل ونطالب باحترامها، ونعتبر أي رفض أو استهجان لها، عنصرية وتمييزا. مثلا تسافر السعوديات إلى ماليزيا بأعداد هائلة مع عائلاتهن، وشريحة كبيرة منهن يرتدين العباءة السوداء بل والنقاب، وهو منظر غريب على الماليزيين الذين يحبون الألوان الفاقعة الجميلة، ولا يُعرف عنهم النقاب، ومع ذلك سمحوا لهن بارتدائه ولم يعارضوهن. والأمر نفسه في أوروبا، التي زيادة عن ماليزيا لديها حاجز نفسي مع المسلمين، ومع ذلك نسافر بحجابنا، ونصلي في الحدائق العامة، ونمارس كل شعائرنا كحق من حقوقنا، بغض النظر عن غرابة ذلك على الدول المستضيفة. بل أذكر أنه حتى بعض الطلبة المبتعثين في بريطانيا كانوا يطلبون طلبات عجيبة من معاهد اللغة، مثل أن تدرس زوجاتهم في فصول نسائية، وتدرسهن نساء! وهي ثقافة غريبة جدا على الناس هناك، بل تضرب في صميم معتقداتهم حول المساواة بين الرجل والمرأة، والتي تحارب الفصل بينهما، باعتباره نوعا من التمييز من جنس ضد آخر.

فكيف نتوقع أن يتكيف العالم لأجلنا ويتقبلنا كما نحن، بينما نحن نرفض تقبل حتى تراث أقرب دولة مجاورة لنا؟

أنا لا أتحدث هنا عن المحرمات التي لا خلاف فيها، لن نفتح أماكن للخمر أو ممارسة الرذيلة كنوع من «التعايش» والانفتاح، ولن نسمح بممارسة ما ينافي الدين والأخلاق علنا، فهذه أمور لا يختلف عليها اثنان، وفيها تحريم قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة، وإنما عن الأمور التي فيها سعة، مهما حاول البعض التعصب لرأي واحد وإيهامنا بأن هذا الرأي وحده دون سواه هو الصواب والأجدر بالاتباع. فالناس قد تجاوزت مرحلة الوصاية، وكل شخص له أن يجاهد بإصلاح نفسه أولا، فلا يضره من ضل بعد ذلك. والفضيلة لا تتحقق بالإجبار وإنما بالاقتناع بكل منطق ورفق واحترام للناس على اختلاف أنواعهم ومعتقداتهم.

ما قام به الشاب المزعج في معرض الكتاب يجب ألا يمر مرور الكرام، لأنه فيه استهتارا بسمعة الدولة وهيبتها واعتداء على الآمنين وتروعيهم. كامرأة أنا لا أشعر الآن بالأمان للمشاركة في فعالية عامة، إذ من الممكن أن يقتحم أي شخص له موقف من كشف الوجه أو مشاركة المرأة في نشاطات مجتمعية ويسيء إليّ أو يزعجني، ومن أمن العقوبة أساء الأدب. وإذا كنا نعاقب طلبة الجامعة مثلا على تصرفات فردية لا تضر أحدا سواهم «قصة الشعر، أو الملابس»، فالأولى أن يُعاقب من ضرره متعدٍ.