اكسر صخر اللغة، استخرج تبر المعنى، اصهره، أخرج لنا لغة من ذهب، إياك وقصائد العير والأطلال، كفاك امرؤ القيس الوقوف بها فعلاً، فكيف تزعم الوقوف بها قولاً، وأنت على تخوم مدينة من أسمنت، أطلالها رجيع يساق للمصانع كي تعيد إنتاجه حديداً لأعمدة البناء الجديد.

اضرب بإزميل النظر العقلي صخر اللغة باحتراف باهر لتصنع تحفتك الخاصة، اقرأ كتب الأنثربولوجيا (الإنسانيات)، لخصها كتعويذات ترعب بها قبل الكسر كهنة المعابد، يخشون على أوثان اللغة القديمة من إزميلك، كن كأبيك (إبراهيم البليهي)، لا تكل ولا تمل من تكرار حقيقة التخلف ما دام الواقع بائساً، أوجعهم بتكرار بؤسهم التلقائي على مسامعهم، لمن أراد الحرية بالعمل الفكري العميق الرزين، قبل أن تسبقك ثورة العبيد بحثاً عن قيد جديد.

اكسر صخر اللغة، واحذر على عين المعنى من مرود كحلك، (فمن يريد النجاح سيصيب هدفاً لم يصبه أحد غيره، ومن يرد العظمة سيصيب هدفاً لم يره أحد قبله)، فاكسر الصخرة ينبجس لك دليلك الخاص في ينبوع قد تجده ولا تجده في صمصام السنين ورمال المترادفات التي ترهقك قبل أن تصل للغتك الخاصة التي لا يشبهك فيها أحد سواك.

اكسر صخر اللغة، اقلب طاولة الدرس على الدارسين والمدروسين، وتذكر أن درس السنابل لاستخراج الحب كي تُطحن وتُؤكل، وسيُدَرِّسُونك ويَدرِسُونك لاستخراج أفضل ما فيك، ثم يطحنونك في سبيل رأسمالية لا تشبع، فكيف تفرح أنك الأول دارساً أنسيت أنك بعد ذلك ستصبح أول مدروس، ستصبح سنبلة من جديد مدروساً بصخرة يجرها الثور تدهك السنابل والعذوق.

 يقدس الفلاح البذور المدروسة، لأنها سر القوت، ويتلصص عليها التاجر لأنها سر البضاعة، ويمضغها المتخمون بيضاء بلا نخالة، ويبقى الخرمد شاهداً على أن المدروس مهما اعتنينا به سيبقى بينه المخرمد.

اكسر صخر اللغة لتكتب شعراً أو نثراً أو بحثاً أو مقالاً، مهما يكن ما دام خط يدك قد تحول من يراع القصب إلى ماركة مستوردة فتيقن أن التوفيق بين التراث والحداثة باسم الأصالة والمعاصرة سيبوء بإثم عجزك على أن تصنع قلمك، عدا أن تقترف به قفزة الحضارة بجرة قلم (باركر أو ووترمان، أو لوحة مفاتيح آبل أو ديل)، فعن أي أصالة تحكي؟ سوى قاموسك وصمصام لغتك التي عجزت عن كسرها وصقلها لتنافس في سوق النخاسة تحت حنجرة صارخ يقول: لغة للبيع، تصلح لكل المخترعات والمجتمعات، لكل الأماكن والبيئات، فيفاجئك عجوز كهل يمسك يدك ويأخذك بعيداً عن عالم السوق والاستهلاك قائلاً: يا ولدي اللغة ليست صخرة، ولا جارية من رخام للبيع تنتظر نحاتاً جديداً، اللغة كائن حي ينمو ويتزاوج وينجب ويتناسل أشكالاً وألواناً وأعراقاً جديدة، كيف لك لم تلتفت للأوردو وهي سليلة ثلاث لغات (الهندية والعربية والإنجليزية)، كيف لك لو كسرت صخر لغتك لتكتشف خطوط التاريخ في السريانية القديمة والفارسية والحميرية والأمهرية، ستفجعك الصخرة إذا تكسرت ولن يحتمل الناس تفاصيلها الحادة، سينكرونها ويعتبرونها من رفات الأقدمين، أو يرجمونك أو يحرقونك كزنديق آسن.

لا تكسر صخر اللغة، اكسر كل المعاني القديمة، أنجب مفاهيم تذيب جليد هذا الزمن، تبعد عنا صقيع هذا الوقت، لا تكترث بالسيول ما دمت تأوي إلى جبلٍ من (شك المؤمن وصدق الضمير)، يعصمك من إعصار الاستبداد العنيف أو حتى سيول (الهاشتاقات الفارغة)، أما الله فلا عاصم منه إلا هو، وبه العروة الوثقى، تفصمها بيدك إذ تشرك به شيئاً ولو كان خردلة من طاغوت ترجوه ولا ترجو خالقه، ورجاء الخالق بالعمل قبل القول، ورجاء المخلوق ملق إثر ملق، يمكر الطاغوت بمال يفوق مال قارون، أو أتباع كقطعان الخراف، ويمكر التاريخ بسعر الصرف في سلة العملات، أو رابعة العدوية، فهل نمتدح هيجل أم نشتم ماركس، لا هذا ولا ذاك، بل نقول شكراً للديالكتيك، فلا مال الطاغوت الحليق أنقذه من الفاقة، ولا قطعان الطاغوت الملتحي منعته من الحبس.

اكسر حجر اللغة وابخع فؤادك حزناً على زمن تولى بغير إذنك، وارفع قهوة شاعر يستحق (رأس الشعر)، ثم قل: كم وكم، وكم من (قهوتك المرة المستطابة)، ثم تذكر عروبته وصلاة تراويحه وتعاويذه، وارفع يدك للسماء كمئذنة لا تنحني، وتبتل برأس مرفوع في محراب لا يخون قبلته وفق أهواء المترفين، ثم اتل على روح من تحب الفاتحة، أما من تكره فعليهم تبَّت، وفيهم سورة الهمزة.