لا يفصل بين الفرنسين وبين استحقاقهم الرئاسي سوى أسابيع معدودة في 23 أبريل المقبل، وفرنسا ما تزال في مهب الريح التي تتلاعب بسفينتها يمنة ويسرة، ولم يستطع أحد من المتابعين لها التنبؤ بمن سيكون صاحب الحظ الأوفر في الوصول إلى قصر الإليزيه.
في الانتخابات التمهيدية التي جرت قبل بضعة أشهر برز نجم فرانسوا فيون الذي كان رئيساً للوزراء في عهد الرئيس ساركوزي بوصفه المرشح الأبرز لحزب الجمهوريين، وحظي بدعم اليمين والوسط ما مكنّه من التقدم على منافسيه في الجولة الأولى: نيكولاي ساركوزي الرئيس الأسبق، وإيمانويل فالس رئيس الوزراء المستقيل من حكومة الرئيس الحالي فرانسو أولاند، وألان جوبيه رئيس الوزراء في حكومة جاك شيراك.
وفي الجولة الثانية تقدّم فيون على منافسه الوحيد في التصفيات النهائية ألان جوبيه، وظن كثيرون أن الطريق أصبح ممهداً له للوصول إلى مبتغاه في الانتخابات الرئاسية، خصوصاً أن المنافس التقليدي حزب الاشتراكيين الحاكم في أشد حالاته ضعفاً بسبب الإخفاقات والإحباطات التي تعرّض لها في عهد الرئيس الحالي فرانسوا أولاند، وعدم قدرته على توحيد صفوفه خلف مرشح قوي يعيد له ذلك الوهج الذي كان عليه في حقبة الرئيس فرانسوا ميتران. وهم وإن كانوا وضعوا ثقتهم في الانتخابات التمهيدية خلف بُونْوَا آمون إلا أن هذا الأخير لم نعد نسمع عنه كثيراً بعد تلك الليلة التي أعلن فيها اسمه متقدما على كل منافسيه من الاشتراكيين والشيوعيين، وعموم اليسار حتى لكأنه اختفى عن الساحة الانتخابية التي يبدو أنه أدرك ألا أمل له ولتيّاره بالفوز فيها بمنصب الرئاسة.
وفي الجهة الأخرى من منافسي فرانسوا فيون يقف شخصان هما: ماري لوبان زعيمة حزب الجبهة الوطنية، وهي وإن كانت تتقدم بقوة في استطلاعات الرأي العام مستمدة قوتها من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي لا تؤيد هي بقاء فرنسا فيه، وأيضاً وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، إلا أنها وحزبها مكروهان من اليمين المعتدل والوسط واليسار على حد سواء.
أما الشخص الثاني الذي يقف منافساً لفرانسوا فيون على كرسي الرئاسة فهو رئيس حزب إلى الأمام إيمانويل ماكرون الذي يحظى بدعم الوسط وبعض اليسار، وهو شاب فيه حيوية الشباب، وحكمة الكبار كان وزيراً للاقتصاد في حكومة أولاند، واستقال منها قبل سنتين بنيّة الترشح للانتخابات الرئاسية حينما يحين موعدها، وهو يقدّم نفسه على أنه الموحدِّ لصفوف الفرنسيين من جميع الاتجاهات من خلال برنامجه الانتخابي الواضح الذي يمكن أن يُوصف بأنه توافقي. سافر إلى الجزائر فقدّم لأهلها كلاماً معسولاً بوجوب اعتذار فرنسا عن الجرائم التي ارتكبها أجدادهم ضد الجزائريين، والهدف من ذلك كسب أصوات مئات الألوف من الفرنسيين من أصل جزائري، إلا أن هذه التصرفات أثارت عليه غضب الفرنسيين المنحدرين من جيل المستعمرين للجزائر، ولما عاد اجتمع معهم في جنوب فرنسا، وأسمعهم كلاماً معسولاً يبدو أنه امتصّ به غضبهم، وقد يكسب بعضهم إلى جانبه، ومنذئذ تسارعت الأحداث في فرنسا بصورة زادت من لمعان نجمه، وتقدّمه في استطلاعات الرأي على مرشح اليمين المعتدل والوسط فرانسوا فيون الذي لم يعد المرشح الأوفر حظاً في الوصول إلى قصر الأليزيه.
والسؤال ما الذي جعل فيون يتأخر وماكرون يتقدم؟ والإجابة معروفة وواضحة لكل متابع للانتخابات الفرنسية، إذ ما كادت أسهم فيون ترتفع بعد انتخابه مرشحاً لليمين المعتدل حتى أطاحت به فضيحة مالية مدويّة تتمثل في تقاضي زوجته واثنين من أبنائه مبالغ مالية بزعم توظيفهم معاونين له حينما كان عضوا برلمانيا.
ورغم تخلِّي كثير من أقطاب حزبه عنه بمن فيهم بعض فريق حملته، وكذلك ضغط حزبه عليه للتخلّي عن الترشيح لصالح ألان جوبيه، فإنه أصر على البقاء حتى النهاية، ساعده في ذلك نجاحه في تكوين حشد جماهيري كبير مؤيد له في أحد ميادين باريس، واعتذار ألان جوبيه عن الترشيح بديلاً عنه في حالة انسحابه متعللا بأن الوقت متأخر، لذلك جدّد المكتب السياسي لحزبه التأييد له بالإجماع. ولكنه ما كاد يتنفس الصعداء حتى لاحقته فضيحة مالية أخرى تتمثل في اقتراضه مبلغ خمسين ألف يورو دون فوائد مقابل ما يُعتقد بتسهيلات قدّمها للمُقْرِض دون أن يصّرح بها في الذمة المالية حينما ترشح للانتخابات، وسيمثل أمام القضاء في 15 مارس الجاري ليقول رأيه فيه.
أما إيمانويل ماكرون فيزداد التأييد له يوماً بعد يوم، وآخر من أيده من زعماء اليسار السيد برتران دولانوي رئيس بلدية باريس السابق. فهل يكون ماكرون ذلك المرشح الشاب صاحب البرنامج الانتخابي المتوازن في سياسته الاقتصادية ومواقفه المتصالحة مع الاتحاد الأوربي، ومع شعبه بمختلف اتجاهاته هو الرئيس المقبل لفرنسا؟ وهل الرئاسة الفرنسية التي يريدها فرانسوا فيون بإصرار، ويسعى لها بقوة هي التي لا تريده، وإنما تريد إيمانويل ماكرون الذي تشير دلائل كثيرة إلى أنه هو من سيكون الساكن الجديد لقصر الإليزيه؟ ما لم تحدث متغيّرات تقلب الموازين لغير صالحه في الأسابيع المتبقية من زمن الحملات الانتخابية، أما ماري لوبان زعيمة الجبهة الوطنية فهي ما تزال تتقدم في استطلاعات الرأي، وقد تكون المنافس الوحيد لإيمانويل ماكرون في التصفيات النهائية خصوصاً إذا دعمها اليمين الجمهوري الذي قد ينفضّ بعضهم من حول مرشحهم فرانسوا فيون، أو في حالة مقاطعتهم للانتخابات مفسحين الطريق لليمين المتطرف الذي سيستميت في دعم ماري لوبان على الرغم من الفضيحة التي تلاحقها على خلفية وظائف وهمية لمستشارين من حزبها في البرلمان الأوروبي التي هي عضو فيه منذ العام 2016، وتجاهلها لدعوة القضاء لها للمثول أمامه.