محمد فايع


النبش في دفاتر الرعيل الأول من المعلمين، من أروع ما يمكن لي أن أفعله، فحياتهم مليئة بالمواقف والحكايات التي تحمل في طيها الكثير من «الدروس والعبر»، أعمل على استحضارها من حقيبة زمن رحل، لأقدمها على طبق الذكريات للجيل الحاضر، لأنها محفورة على جدار الذكريات باقية «كباقي الوشم في ظاهر اليد»، لعلكم تذكرون في مقال سابق حدثتكم عن واحد من طلبة الأستاذ محمد أنور، وهو معالي الفريق مريع بن حسن، وذكرت لكم أن طلابه كثر، وكان يزودهم بأمهات الكتب في الأدب واللغة والشعر من مكتبته، ويطالبهم بمطالعتها رغم صغر أعمارهم، مدركا أن ذلك سينفعهم لاحقا، فكانت علاقته بطلابه تتجاوز أسوار «المدرسة السعودية» ولا تنتهي بانتهاء اليوم الدراسي، ولطبيعة الحياة آنذاك في خميس مشيط التي كانت تعد قرية صغيرة تكونها عدة أحياء تعد قرى متناثرة أشهرها «قنبر، الدرب، ذهبان»، وغيرها من الأحياء، ولأن أستاذ ذاك الجيل شغله الشاغل الكتاب والتعليم، فقد كان يحب أن يغرس في نفوس تلاميذه ذلك العشق، ودعوني أحدثكم اليوم عن الأستاذ حسين بن أحمد بن جابر، أحد الطلاب الخمسة المقربين من الأستاذ أنور، كان يعرف في أوساط مجتمعه بالمدير من الطراز النادر في الإدارة، وحين يقال المدير يُعرف من المقصود، لما يتمتع به من قدرة وإخلاص وتفان وعشق لعمله يدفعه إلى زيارة مدرسته مساء حالة من العشق، وكأن فراقها لساعات يوجعه، فيأتمر بأمر الحنين فيزورها، مما أكسبه ذلك حبا ومكانة وتقديرا عند الناس، فلم يكن تربويا عاديا، سيما وقد نهل التربية والتعليم من أستاذه أنور، ولست مبالغا إذا ما قلت من أراد أن يكتب عن سمت المربين وصفاتهم كما يجب أن يكونوا عليه، فعليه أن يستحضر سيرة المدير حسين بن أحمد، أو يكتبها وهو ينظر إليه، فقد عرف باستقامته منذ صغره، إذ كان من الطلاب النجباء، وبعد أن اشتغل بالتدريس والتحق بجيل المعلمين الرواد، كان من المبرزين، إذ قضى في ميدان التربية والتعليم ما يزيد على الأربعين عاما معلما ومديرا، نال خلالها محبة طلابه وزملائه، وتحول إلى قصة في مجتمعه تستحضرها مجالس التربويين، وللأستاذ حسين موقف أنقله لكم كما سمعته كدرس للأجيال، فقد زار مدرسة أحد رفيدة التي تعرف اليوم بمدرسة القدس التي استلم إدارتها في عام 1376، مدير التعليم، أظنه الأستاذ عبدالله السلوم إن لم أكن مخطئا، الذي قصد إدارة المدرسة، وحين لم يجد أحدا، شاهد معلما مسنّا يدرّس الطلاب في فصل مجاور للإدارة، فذهب نحوه وسلم عليه، وسأله عن مدير المدرسة، فرحّب المعلم به، وطلبه أن يشاركه الحصة حتى تنتهي، وما إن انتهت حتى رحّب به مجددا، وهو يقول معك مدير المدرسة الآن نذهب إلى الإدارة، وبعد حديث طويل عن أوضاع المدرسة، ومتابعة لأعماله في إدارتها، سأله عن وجوده بالفصل وهو المدير، فأجابه التربوي الرائد: أنا مثل كل المعلمين لدي نصاب من الحصص حسب النظام أؤديها، وأعدّ لها كما يعدون، لأنها من حقوق الطلاب عليّ، هكذا كانوا يعلمون ولا يعانون «جيل من الذهب».