لا يرى المراقب للمشهد الفرنسي والصراع المحتدم بين النخب المتعددة للترشح إلى منصب الرئاسة، إلا ويخطر بباله أن نتائجها ستكون أبعد من الحدود الفرنسية ذاتها.
لسنوات طويلة، لم تشهد باريس ثورة مهمة أو على الأقل محاولة إصلاح معينة، حتى مع تناوب اليسار واليمين على السلطة في تلك البلاد. لكن الانتخابات الحالية تحتضن مؤشرات تدل على قرب اندلاع ثورة جديدة بين الاشتراكيين والجمهوريين وقد يخسرون في الجولة الأولى من الانتخابات المقررة في شهر أبريل المقبلة.
يبدو من خلال بعض المؤشرات الأولية، أن فوز ماري لوبن المرشحة عن اليمين المتطرف غير مرجح، لكن في هذه الانتخابات غير المألوفة، يمكن لأي شيء أن يحدث، حيث يحتمل أن يواجه الناخبون الفرنسيون خيارا بين مارين لوبن، وإيمانويل ماكرون زعيم تيار «إلى الأمام» الليبيرالي، في وقت يعتبر تأثير هاتين الشخصيتين ليس مبالغا به، لأنهما يجسدان مثلا حيا لمسار عالمي رائج، وهو أن الانقسام القديم بين اليمين واليسار بات أقل أهمية من ذي قبل، وأصبح الانقسام هو بين المنفتح والمنغلق، بل يمكن للانتخابات أن تعيد إحياء الاتحاد الأوروبي أو تدمره.
إن من أهم أسباب اندلاع هذه الثورة المحتملة هو غضب الفرنسيين من طبقتهم الحاكمة، في وقت تشير فيه استطلاعات الرأي إلى أن الشعب الفرنسي هو أكثر الشعوب تشاؤما على الأرض، حيث يرى 81% منهم أن العالم يزداد سوءا، فيما يرى 3% فقط نقيض ذلك.
ويعود تشاؤم الفرنسيين المتزايد بسبب رؤيتهم للوضع الاقتصادي الفرنسي المتردي، حيث إن ربع الشباب الفرنسي لا يزال عاطلا عن العمل، فيما يعجز القسم العامل عن إيجاد عمل دائم وهو نفس الأمر الذي حصل للجيل الماضي، فيما زادت الهجمات الإرهابية والمهاجرين هذا التشاؤم.
كلتا الشخصيتين الفرنسيتين تعزفان على وتر الفشل، إلا أنهما تقدمان تشخيصين مختلفين جذريا لما يجري، حيث ترى لوبن أن القوى الخارجية هي السبب في تشاؤم الأميركيين، وتعد بحماية الناخبين بمزيد من الحواجز والرفاه الاجتماعي، وتصف العولمة تهديدا للوظائف الفرنسية، وترى أن الاتحاد الأوروبي وحشا معاديا للديموقراطية بالنسبة إليها.
كما تستهدف لوبن أيضا إغلاق المساجد التي ترى أنها تصدر الإرهابيين، وتعيق المهاجرين وتقيد التجارة الخارجية، فيما يرى منافسها ماكرون أن الانفتاح سيجعل من فرنسا أقوى من ذي قبل.
إن فوز ماكرون سيكون دليلا على أن الليبيرالية ما زالت تجذب الأوروبيين، أما فوز لوبن فسيجعل فرنسا أفقر وأكثر انعزالا وبغضا، وإذا ما خرجت فرنسا من منطقة اليورو فستندلع أزمة اقتصادية حادة قد تطيح بالاتحاد الأوروبي برمته، الأمر الذي سيسعد العدو اللدود روسيا، في وقت تزامنت هذه التوقعات مع قبول لوبن قرضا كبيرا من روسيا، وعانت مؤسسة ماكرون أكثر من 4 آلاف هجمة إلكترونية يعتقد أنها من روسيا.
لم يتبق إلا شهرين على خوض غمار الانتخابات غير المسبوقة في التاريخ الحديث للدولة، فهل تهز فرنسا العالم مجددا، كما فعلت من قبل، أم ستستمر على ماهي عليه؟