زُفّ صباح الثلاثاء المنصرم خبر كان حلما لمثقفي البلاد خلال سبعة عقود من زمن الهم الثقافي الجمعي، إذ قرر مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة الموافقة على الترتيبات التنظيمية للهيئة العامة للثقافة، التي ستستقل بالشأن الثقافي، وإعادة هيكلته وصياغة إستراتيجياته الجديدة، بما ينسجم مع متطلبات التنمية الثقافية ومجتمع المعرفة، ببرامج حقيقية طموحة، لترسيخ الثقافة الوطنية الكلية، بحيث تتجاوز اهتمامات النخب الثقافية فتشمل الذهنية العامة للمجتمع كله.

الحقيقة أن الاهتمام بالثقافة وشؤونها والعمل الجاد على نشر تجلياتها المعرفية والأدبية والفنية هو السبيل للنهضة الحضارية، التي تشمل كافة الأطياف الاجتماعية والمؤسسات الحكومية، فمجتمع الثقافة هو مجتمع المعرفة الحديثة وهو ذاته مجتمع التسامح والاعتدال والرقي، الذي لن يكن فيه متسع لذوي الأفكار المتطرفة الإقصائية التي قادت شبابنا إلى مهالك الإرهاب والعنف، ولا لأصحاب القناعات العنصرية المغلقة، التي تهدد دائما الوحدة الوطنية وحق الجميع في التعايش السلمي المنسجم!

دائما ما كنت «أربط» بين الشرور والسلبيات التي تظهر في المكون الاجتماعي أو المؤسساتي لدينا بانعدام المكون الثقافي. ألا ينشأ الفساد في غياب مخرجات الثقافة الخالصة، التي تكفل لمتبنيها وممارسها أن يكون ذاتا مستغرقة في أرقى مشاعر الإنسانية والوطنية، التي تلفظ بطبيعتها أي فساد يهدد نزاهة الإنسان وسلامة الأوطان؟!

لذلك فمن الثقافة نبدأ، وعليها نمر، وإليها ننتهي، ونحن نبتغي وطنا يلهج بالحب والوفاء والجمال!

لا أدري عن الصيغة التي ستكون عليها الإدارات المرتبطة بالثقافة لدينا، وهي النشاطات الثقافية، والمكتبات العامة، والتراث والفنون الشعبية، والإعلام والنشر، والنوادي الأدبية، ولكن الذي آمله أن تكون صياغة آليات العمل وبرامجه في تلك الإدارات صياغة متسقة منسجمة متفاعلة، تفضي كلها لتحقيق أهداف ثقافية ومعرفية سامية ومحددة!

وفي اللحظة ذاتها فثمة ارتباط قوي لا يمكن فصله بين أعمال وغايات وبرامج ثلاث هيئات ستوجد مجتمعة في سياق «ثقافي» واحد، وهي هيئة السياحة، وهيئة الترفية، وهيئة الثقافة! بمعنى أننا لا يمكن أن نسم فعالية موسيقية بكونها منتجا ترفيهيا فحسب، لأنها في الأساس من أشكال فنون الثقافة، ثم لأنها تتجه في النهاية لخدمة المناشط السياحية في البلاد.

وبالتالي فإن المرء يخشى أن يفضي تداخل أهداف وفعاليات هذه الهيئات لأن تقوض إحداها الأخرى، أو على الأقل فإن ذلك يفضي -أيضا- إلى تشتيت الجهود وضياع الصوت المؤثر بين أودية سحيقة بعيدة عن المسارح الفعلية التي تقام على خشباتها معطيات السياحة والترفية والثقافة معا!

أقول وكلي ثقة فيما أقول، إن الهيئة الثقافية الجديدة يمكن أن تضطلع بغايات هيئة الترفية المستحدثة مؤخرا.. فالبرامج المسرحية والغنائية والموسيقية والشعرية والسينمائية، هي أجناس الفنون الرئيسة في الثقافة العالمية قديما وحديثا، والتي تكمن أهميتها وقيمتها في الاستجابة لنداءات الإحساس بالجمال الذي تأنس إليه النفس الإنسانية، والذي هو المعنى الحقيقي للترفية عامة!

أما لو عدنا بالحديث إلى بشرى إقرار الترتيبات التنظيمية للهيئة العامة الجديدة للثقافة، فإن الأماني تتجه صوب فضاءات تزخر بفعاليات ومكتسبات ثقافية حقيقية هنا وهناك.. في المدن والقرى على السواء، للنخب والعامة معا، للترفية والتعليم والتثقيف سواء.

ولعل أبرز خطط عمل هذه الهيئة الثقافية، أن تتراضى مع بقية الخطابات المهيمنة التي تشكل الوعي الجمعي، بحيث لا يصطدم خطاب الثقافة بخطاب المؤسسة الدينية أو بمبادئ المناهج التعليمية «لأنه حتى الآن لم نتفق على موقفنا العام والشعبي من منتجات الثقافة: السينما والموسيقى والمسرح وحتى التشكيل والتصوير»!

ولذلك فإن من الواجب تهيئة البيئة المناسبة الآمنة لتعاطي فنون الثقافة، حتى ينهمر نهر الإبداع غزيرا مستمرا متوهجا، بلا صخور متصلدة يضعها عادة العابثون والمعترضون على أنهار الحياة الطبيعية، فمجتمعنا يستحق حقا أن يجرب العمل الثقافي بعد أن اكتوى عقودا من الزمن بسلطة خطابات أيديولوجية نفعية متطرفة، أفضت بنا إلى سكون اجتماعي بليد وحراك إرهابي حصيف!

وعلى الجانب الآخر، فإنه حري بأعمال الهيئة الثقافية الجديدة أن تتجاوز ذلك الفكر النمطي التقليدي البيروقراطي الذي «أديرت» به المؤسسات الثقافية في بلادنا من أندية أدبية وجمعيات فنية و.. و..! حري بالقائمين على أعمال الهيئة الثقافية أن يفتحوا نوافذ مباني الأدب الثقافية لكل فكر يتخلق باستمرار، وأن يجهزوا منصاتهم -من الآن- لأسماء جديدة، نعرف ويعرفون بأنها تزخر -حقا- بالهم الثقافي الحقيقي والمعرفة الثقافية الخصبة الفاعلة الخالصة، ولكنها كانت متوارية من أجل عيون الكبار من شيوخ الثقافة المحنطة! فكما كان لخطابات الحركات الصحوية المتطرفة شيوخ قادوا المشهد إلى عنف وموت وهلاك، فقد كان لثقافتنا -أيضا- شيوخ «ارتزوا» بأجسادهم المتضخمة «بتأثير عمليات التحنيط والتظبيط والتزييف» في عين الشمس، ليحجبوا عن مثقفي عصر المعرفة الجديدة ضياءها ودفئها زمنا مديدا مديدا..

بالتأكيد فإن للحديث بقية، لأن للثقافة شجونا وهموما وأحلاما لا تنتهي.. أبدا.