الأمير تركي الفيصل من رجال الأمن والدبلوماسية في بلادنا، وكذلك هو مفكر ومثقف؛ إلا أن لسان الدبلوماسية والحس الأمني الفطن هما اللذان يغلبان على الظهور في لقاءاته الصحفية وكلماته في المحافل الدولية ومحاضراته العامة؛ وهكذا بدا لي الأمر أيضا في اللقاء الذي أجرته معه قناة DW الألمانية، وحاوره فيه الصحفي البريطاني تيم سبيستيان؛ وأعتقد أن طبيعة اللقاء القصير ذي الأسئلة المتسارعة هو ما حمل الأمير على اختيار اللغة الدبلوماسية والإجابات الحذرة التي تعتمد على المقارنة السريعة والهجمات المرتدة، ولم يلجأ إلى التأصيل الفكري والعمق الثقافي؛ فهذان الأمران يستحيلان تقريباً في لقاء تلفزيوني يعتمد نجاحه على مدى مهارة المقدم في استفزاز الضيف وإيقاعه في الفخاخ؛ وهذا ما لم يصل إليه المذيع مع ضيفه المحنك وفقه الله؛ والذي ظل هادئًا مبتسما طيلة اللقاء؛ وإن كان ثَمَّ مَن انفعل فهو مقدم البرنامج لا ضيفه.
إن التأصيل الفكري والسَّبْر الثقافي العميق في حاجة إلى لقاء طويل ونقاط محددة وبرنامج رسالي ومذيع محايد، وكل ذلك فيما يظهر لي غير متوفر في برنامج دائرة الخطر محل حديثنا.
أسئلة تيم سبيستيان جسدت لي الطريقة التي يفكر بها الغرب تجاه الأمم الأخرى؛ والمعيار الذي يُقَيِّمون من خلاله الشعوب والدول، والشكل الذي يريدون أن يكون عليه الآخرون.
فقد كان مقياس الحق والخطأ لدى سبيستيان في شكل الدولة ونظامها الداخلي وعلاقاتها الخارجية والتعليم ونظام العقوبات وقِيَم الشعوب هو المنطلقات الفكرية الغربية المعاصرة؛ فما وافقها هو الحق وما خالفها هو الباطل.
فمثلاً: النظام الديمقراطي عند سبيستيان [والرجل أنموذج لما عليه غالبية المفكرين والإعلاميين في الغرب] هو وحده نقيض الاستبداد؛ فالديمقراطية هي العدالة، وما عداها ظلم واستبداد؛ دون اعتبار لتجارب الأمم والشعوب وتاريخها السياسي والثقافي، ودون مبالاة بأن ما يمكن أن يناسب أمة من أنظمة هي نتاج تفاعلها مع تاريخها وبنيتها الاجتماعية، وموروثها الثقافي ليس ضروريا أن يتناسب مع أمة أخرى ليس لها علاقة تاريخية أو اجتماعية بهذه النظم؛ فلديهم مُسَلَّمة هي أن ما نجح عندهم يجب أن ينجح عند الآخرين؛ وأذكر في هذا الصدد ما نقله مالك بن نبي في كتابه «المسلم في عالم الاقتصاد» أن الاقتصادي الألماني هايلمار شاخت حينما نجح في خطة إنقاذ ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى استعانت به إندونيسيا ليضع لها خطة إنقاذ هي أيضا، لكن النتيجة كانت مدمرة جدا؛ الشاهد من القصة هو رسوخ الشعور الغربي بأن تجاربهم يجب أن يسير عليها الآخرون؛ لذلك تُفلِح كثيراً حملاتهم الإعلامية في إقناع شعوبهم بأن أي عُدوان يقومون به ضد الشعوب الأخرى إنما هو لنشر الديمقراطية لا غير؛ بدءًا من الاستعمار الأوروبي للعالم وتسليم فلسطين لليهود، ومروراً بغزو أميركا للعراق؛ والتماهي مع الأنظمة المجرمة كالنظام البورمي والإيراني والأسدي؛ وانتهاء بثورات تقسيم الشرق والتي سميت إعلاميا بالربيع العربي؛ ولا أعتقد أن لديهم نية التوقف عند هذا الحد؛ ومادام هذا المنطق الذي انطلق منه مقدم البرنامج في حواره مع الأمير سائداً في الفكر السياسي الغربي، فدور السعودية لتكون عدواً مباشراً مستهدفاً للغرب بدعوى نشر الديمقراطية [بزعمهم] مازال محتملاً؛ وكانت الولايات المتحدة قد اقتربت عدة مرات من البوح به؛ لكِنْ دَفَعَها الله بسُّنَّته الكونية التي أخبر الله عنها (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فبها اسم الله كثيرا).
وبما أن القناة ألمانية فمن المناسب الإشارة إلى أن الديمقراطية في ألمانيا كانت سبب وصول النازيين إلى الحكم؛ وربما لو طُبِّقت بشكل كامل هناك اليوم لعاد النازيون إلى الحكم أيضا.
فإذا أردنا للنقاش مع الغرب أن يُحَقٌِق شيئاً من الجدوى، فيجب أن نستبعد المؤسسات السياسية وأدواتها من أي حوار علمي لأنها لا تعمل سوى بالدوافع النفعية؛ ونركز في النقاش الذي يستهدف الشعوب والمثقفين على المنطلقات وليس الظواهر؛ فعقوبتا الجلد والقَطْع اللتان يعترض عليهما المُقَدِّم تبعاً لتقارير لجان الأمم المتحدة ينطلقون في استنكارهما من مبادئ أهمها: أن العقوبات قوانين إنسانية ينبغي ألا يكون للدين شأن فيها، كما يجب ألا تتضمن إيلاماً جسدياً أو نفسياً؛ ويظنون أن عقوبة السجن أو العقوبات البديلة الأُخر خالية من هذا الإيلام؛ وهو منطلق فاسد؛ وليس المقام هنا لمناقشة أوجه فساده، بل للتأكيد على أن هذه المنطلقات إن لم تتم مناقشتها فالنقاش في الأحكام الظاهرة لن يصل بنا معهم لأي نتيجة.
ويجسد سبيستيان حالة الصحفي الغربي الذي يتخذ تقارير اللجان الأممية والمنظمات الحقوقية بمثابة النصوص المقدسة، وهي أقوى صدقية عنده مما تراه العين المجردة؛ والسبب في ذلك أن من المعايير المهمة التي يحكم بها الإعلامي أو الحقوقي أو السياسي الغربي على أي تقرير يصل إليه هو مدى قربه أو بعده عن منطلقات الفكر الأوروبي؛ وبما أن تقارير لجان المنظمة الأممية تنطلق من رؤى فكرية غربية للسياسة والحقوق فهي صادقة؛ ولا يهم كثيراً إن كان ما تتضمنه موجوداً حقاً على أرض الواقع أم لا.
وحين يقول سباستيان في لقائه مع صحيفة العرب اللندنية «إن من واجبات الصحفي الاستقصاء وتوخي الدقة وصحة المعلومة» فإن أقصى درجات الدقة لديه هي أن تَرِد المعلومة في تقرير أممي؛ دون السؤال عن كيف كُتِب هذا التقرير وما هي دوافع الكاتب؛ لأن مجرد صدوره عن لجان الأمم المتحدة يعتبر مهْراً بصدقيته؛ وهذه القناعة لا يمكن أن يغيرها المثقفون الغربيون ما لم يجدوا أمامهم نقداً علمياً قوياً للأسلوب الذي تتبعه اللجان الأممية والهيئات والمنظمات الحقوقية في قبول الشكاوى؛ وتقويضاً للقواعد المتبعة لديهم في اعتماد المعلومات الواردة إليهم؛ وآلية نشر التقارير؛ وفضحاً لمن وراء مُحاصرة بعض الدول بتقارير هذه الهيئات دون بعض.
إنَّ حراسة الدين والدولة واجب يُحَتِّم تجريم التعدي على الشريعة، وعلى مصادر تلقيها، وكذلك يُحتِّم تجريم ما يصل إلى حد التحريض على الدولة؛ وعقوبة من يثبت عليه شيء من ذلك؛ وهذا الوجوب مأخوذ من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وكذلك مأخوذ من دراسة واقع البلاد في زمن قَلِق يتربص فيه الأعداء بها من كل مكان؛ ومحافظة الدولة على وجودها وأمنها يتطلب شيئاً من الصرامة في هذا الباب إلى حد لا يذهب معه عدلها، ومراعاتها لحقوق المتهمين، وسيرها وانضباطها على الأنظمة التي وضعتها هي لنفسها ولشعبها، لكن المثقف الغربي يُصَنِف كل ذلك ضمن الاعتداء على الحرية المقدسة؛ فهم يُجيزون من أجل فرضها على الأمم تطبيق العقوبات الدولية على الشعوب؛ حتى تصاب السلع بالنَّدرة وترتفع الأسعار ويموت عشرات الآلاف من الناس ويتضور آلاف الأطفال الرضع لقلة الحليب؛ بل يُجيزون لأجل ذلك شن الحروب التي يسمونها «عادلةً» على الدول ورعاياها لفرض قِيَم الحرية وفق رؤيتهم هم، مهما كلفت هذه الحروب من دماء وأموال؛ ومع ذلك يرون سجن عدد محدود أو جلدهم عدوانا يبرر ما يقومون به من إنزال الكوارث بالدول التي تخالف وجهتهم.
لهذا الخلاف الكبير في المنطلقات بين مثقفي الغرب وسياسييهم ولجان الأمم المتحدة وهيئاتها، وبين دول وشعوب العالم؛ فإن ما يقوم به الغرب من ضغوط على دولةٍ ما؛ لن يتوقف بمجرد أن تدَّعي أنها لا نفعل ما تحذرها المؤسسات الأممية منه؛ أو أن تتنازل تلك الدولة عن القيام ببعض ما تؤمن به من أجل تجنيب بلادها غوائل هذه الضغوطات؛ لأن الخلاف كما قدمنا ليس خلافاً في الظواهر بل في المنطلقات؛ والتنازل عن أي قِيمة ظاهرية سواء أكانت في جانب النظام السياسي أو الاقتصادي أو الأخلاقي أو الجنائي لن يطفئ الظمأ الغربي إلى تغييرنا ما لم نترك مبادئنا ومنطلقنا الحقيقي، وهو ديننا الذي أكمله الله لنا وأتم به النعمة علينا.