الوهلة الأولى التي أسمع أن هناك رأيا آخر في وجوب صلاة الجماعة، كان في جامعة تُعد أهم معقل من معاقل الدراسات الإسلامية. كنت حينها للتو التحقت بها كطالب علم. في إحدى تلك المحاضرات سمعت الدكتور الفقيه يُسهب في شرح هذه المسألة الخلافية.

حقيقة، صُدمت من هذا الطرح وكنت ألتفت يمنة ويسرة في الزملاء الطلاب لأتفحص ردود أفعالهم.

أخذت مذكرة المادة ووجدت تفصيلا لمن قال بعدم وجوبها من الحنفية والمالكية والشافعية بأدلة قوية جدا وفيها تفنيد لأدلة مخالفيهم، غير أنني تكتمت على الموضوع أيما تكتم ولم أخبر به أحدا البتة لأسباب عدة.

أولها، الخوف أن ارتكب إثما بإفشاء هذه «السريرة العلمية» فأكون سببا في ترك الناس للصلاة في المساجد، وهذا غير صحيح، فالواجب تبيان العلم وعدم كتمه.

ثانيها، خوفا من سطوة المجتمع، ورمينا بالفسق والضلالة، وبالتالي خسران المكانة الممنوحة لنا في الوسط الاجتماعي، سيما ونحن حينها وعاظا.

كانت تلك حسابات مجتمعية يخشاها أغلب طلاب العلم إلا أن هناك أمرا ثالثا ينحو منحى ماديا صِرفا، وهو الخشية من خسارة إمامة وخطبة مسجد كنتُ آنذاك أتلقى منه مرتبا.

مع التقدم في طلب العلم الشرعي وسلوك الوسطية والاعتدال، علمنا أن المسائل الخلافية أكثر من أن تحصى، بينما المتفق عليها مجرد نزر يسير، وأدركنا أن السياق الوعظي والفقهي السائد يُبرز الأشد، غالبا.

دلالات الألفاظ أو ما يسمى المنطوق والمفهوم يتضح في نصوص عديدة، منها ما ورد في أحاديث صلاة الجماعة. أخرج البخاري ومسلم حديث «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة»، وهو دليل جلي على فضل الجماعة، لا على وجوبها، فلصلاة الفرد أجر ولا يجتمع أجر وعقاب معا.

أما أحاديث الهمِّ بتحريق بيوت من لم يشهد صلاة المسجد فقد جاءت في شأن المنافقِين المعلومين بالوحي عند النبي، عليه السلام، على أن أقوالا كثيرة تطعن في أحاديث الحرق هذه من حيث المتن والسند والنسخ والتأويل، كونها لا تليق بنبي الرحمة، ثم كيف يترك النبي صلاة الجماعة لو كانت واجبة ويذهب لحرق من تخلف عنها؟?!?.

أضف لذلك أنها لو كانت واجبة لعاقبهم، وهو عليه السلام لم يَرد أنه عاقبهم، فدل على أن المراد الزجر عن ترك الأجور الفاضلة، وليس المراد الحرق حقيقة للنهي بالتعذيب بعذاب الله.

أما ما روي عن عدم ترخيصه للأعمى، فهو أمر خاص بأم مكتوم وإلا فقد رخص لعتبان بن مالك «البدري»، حين شكا ضعف بصره. الغريب هنا أن حديث عدم الرخصة للأعمى في حضور الجماعة أشهر عندنا من حديث الرخصة للأعمى الآخر، رغم أن الحديث الأول عند مسلم، بينما الثاني عند البخاري ومسلم، وكأننا نبحث عن الأشد، وإن كان دليله أقل مرتبة!

 ومن أقوى الأدلة على عدم وجوب الجماعة ما صححه الألباني: «إذا صلى أحدكم في رحله (بيته) ثم جاء المسجد فوجد القوم يصلون فليصل معهم فإنها له نافلة».

ومن الاستنباطات في هذا الباب؛ لو كانت الجماعة فرضا لكان أكل الثوم أو البصل في حين الصلاة حراما، سيما وقد جاء النهي عن دخول من أكلهما المسجد.

كذلك فإن الوفود كانت تأتي للنبي الكريم لتدخل الإسلام فيخبرهم بوجوب الصلوات الخمس، ولم يرد أنه كان يأمرهم بها في الجماعة، سيما وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة? لا يجوز.?

ومن أقوى الأدلة أيضا ما رواه الشيخان ?«?والذي ينتظر الصَّلاة حتى يُصلّيها مع الإمامِ أعظم أجرا من الذي يصلّي ثم ينام».

والتصريح هنا بالأفضلية دليل على الاستحباب?.?

ولو كانت الجماعة واجبة لقُدّمت على الطعام فقد جاء عند البخاري ومسلم «إذا وُضِعَ عَشاءُ أحدكم وأقيمت الصّلاة، فابدؤوا بالعَشاءِ، ولا يعجَل حتى يفرغ».

وفي حديث أبي المليح وصححه الألباني قال: «لقد رأيتنا مع رسول الله يوم الحديبية وأصابتنا سماء لم تبل أسافل نعالنا فنادى منادي رسول الله صلوا في رحالكم». ولو كانت الجماعة فريضة، هل كانت لتسقُط بمطر لا يبل أسفل النعال؟!

ومن ذلك ما رواه مسلم «لا يُؤمنّ الرجل في بيته ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه». وفيه إقرار على صلاة الرجل في بيته وحقه في إمامة ضيوفه.

ومن الأحاديث المنتشرة على ألسنة الناس: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فقد أنكره الذهبي وضعفه الألباني، ولو صح لكان المراد نفي الكمال لا نفي صحة الصلاة.

أحاديث عديدة تُسقط القول السائد بوجوب صلاة الجماعة وعدم صحتها إلا في المساجد مما ترتب عليه وصم من لم يفعل بالنفاق والفسق ظلما وعدوانا. مع هذا، لا نشك أبدا في فضل صلاة الجماعة وخاصة في المساجد وأهميتها من حيث الأجور وعمارة بيوت الله وتلاحم المسلمين واللقاء بالجيران وتحصيل الروحانية، غير أن القول بالإلزام والوجوب أمانة علمية يقتضي الدليل الصريح الصحيح مع مراعاة النصوص الأخرى.