يلفت النظر في إعلان جامعة أم القرى فصل 27 طالبة، ضخامة هذا العدد واجتماعه في الإعلان في وقت واحد. وهي الملحوظة نفسها لدى جامعة الطائف فيما عُرف بـ«شلة كاكا» التي شملت 35 طالبة، مع فارق لدى هذه الشلة الأخيرة، هو حدوثها بعد عنف شرس في إحدى كليات الجامعة.

وكان الإعلان عن العقوبة في الجامعتين مقرونا بالجرم المسبب لها، وهو سوء الأدب، سواء في تصرفات شخصية متعلقة بالمظهر والزي، أو بالعدوان على زميلاتهن.

وربما بدا الإعلان مفاجئا، خصوصا في قرار جامعة أم القرى الذي لم يقترن -كما كان الأمر في جامعة الطائف- بحادث يسبق قرار الجامعة إلى الصحافة ووسائل التواصل؛ فلم نعتد على عقوبات معلنة بشأن الطلاب والطالبات في جامعاتنا ومدارسنا.

ولا شك أن الإعلان عقوبة إضافية إلى عقوبة الفصل، فهو ينطوي على التشهير، وهو في حق الطالبات، أكثر أذى لهن، وأوسع نطاقا من أفرادهن، لأنه سيشمل سمعة أهلهن، وسيلحقهن الأذى على مستوى حياتهن الاجتماعية وحياة أسرهن.

وأظن أن الأذى لا يقتصر على الطالبات وأهلهن، بل يمس الجامعة نفسها، فهي -كما هو حال كل الجامعات والمدارس- تشترط لقبول طلابها وطالباتها شهادة حسن سيرة وسلوك؛ والمفترض، ما دام الأمر كذلك، أن يكون منشأ السلوك غير السوي لدى الطلاب أو الطالبات متأتيا كثيرا أو قليلا من ضعف تأثير الجامعة في تكوينهم.

فإذا لم يكن للجامعة أثر إيجابي في متعلميها على مستوى الوعي والفكر والسلوك، فإن جملة من الأسئلة لا بد أن تساورنا في مسافة العلاقة بين طبيعة الجناية التي اقترفتها الطالبات اللاتي شملتهن عقوبة الجامعة، ومحتوى الجامعة الذي يجب أن يؤهلهن لما هو أقوم وأنقى.

لكن علينا أن نتسع بأبصارنا إلى ما يتخطى الجامعة وهو المجتمع الذي تندرج الجامعة فيه، فهو الآخر مسؤول عن سلوك أفراده ومؤسساته، بما في ذلك الجامعة وطلابها. وفي هذا المستوى يمكن أن نرى جرم الطالبات والعقوبة التي قررتها الجامعة في حقهن من زاوية الحسبان للمجتمع.

في مواجهة الجامعة، يمكن أن نتساءل عن سبب اجتماع هذا العدد كله دفعة واحدة في مقصلة العقوبة والإعلان عنها؟ هل يمكن أن يجتمع من أحوال الطلاب والطالبات السلوكية هذا العدد في وقت واحد؟ أليس المعقول أن تكون للسلوك السيئ الذي أوجب عقوبة الفصل بوادر عديدة على مدى شهور؟!

إذا كان الأمر كذلك، وليس له إلا أن يكون كذلك، فإن الجامعة مقصّرة في المتابعة والتوجيه، واتخاذ تدابير عديدة بالإنذار وإبلاغ الأهل وأخذ التعهد والتحويل للجهات العدلية أو العلاجية، في حق كل طالبة منفردة، قبل أن يجتمعن بهذا القدر للفصل.

أما إذا نظرنا في جُرم الطالبات المفصولات نوعيا، فسنجده مختلفا بين بعضهن، ويمكن إجمالا أن ننظر إليه من جهتين: الأولى جُرم الزي الشخصي المخالف وما يندرج في سياقه، والثانية جُرم الجناية في حق زميلاتهن بالتصوير أو بالتحرش أو الضرب وما إلى ذلك.

وهما جهتان مفترقتان في طبيعة الجُرم وفي علاقة الجامعة به، فليس للجناية في حق الآخرين إلا التحقيق والادعاء لدى الجهات العدلية، وينبغي أن يكون تفاعل الجامعة مع الأحكام الصادرة في هذا الخصوص مدروسا ومناسبا.

أما في شأن الزي الشخصي وما إليه، فليس هناك حاجة إلى أن تصل العقوبة إلى الفصل؛ إذ لدى الجامعة من وسائل العقاب ما يكفي، وينبغي أن تحتوي الطالبات برفق في هذا الشأن.

أعرف بحكم عملي أستاذا في الجامعة، كما يعرف -فيما أحسب- معظم الزملاء والزميلات من أساتذة الجامعات، أن الطلاب والطالبات أكثر تقبلا وطواعية لمن كان على مستوى التواضع والدماثة من أساتذتهم الذين يقتربون منهم ويتفاعلون معهم.

وعلى العكس من ذلك فإن العنجهية والتشدد والكبرياء الزائفة من الأساتذة لا تنتج لدى الطلاب إلا صلفا وتمردا ونفاقا. وهذه أمور لا يستطيع أحد المزايدة على ما تقرره النظريات التربوية والسيكولوجية بشأنها.

وللأسف فقد غدت بعض هذه الأخلاقيات المتعجرفة، في جوانب على حساب أخرى، وكأنها السلوك المطلوب من الجامعة، ومن المؤسسة التعليمية إجمالا تجاه الطلاب والطالبات، بل غدت المؤسسة موضع اللوم والاتهام إن هي لم تتشدد، خصوصا في حق الطالبات.

وإلى ذلك، فإننا نَغْفَل عن الانكسارات والصدمات التي يتعرض لها وعي الشباب في زماننا هذا تجاه التصورات الثقافية وبعض الأحكام الدينية، فلم يعد الشباب أسرى التلقي الأحادي والتلقيني، ومجتمعنا نفسه بات يعرف اتساعا واختلافا في عديد من المفاهيم والأحكام.

فإذا لم نغرس في أبنائنا وبناتنا المقاصد والغايات الأخلاقية والشرعية والإنسانية، وليس الأحكام المجردة والضيقة، ونوطِّن في وعيهم مدلول الاختلاف الذي لا تختلف معه المقاصد وإن اختلفت الأحكام في سبيلها إليها وفي تصورها لها، فستكون تصوراتهم مضطربة وعدمية ومدعاة إلى تصرفات مضطربة وعبثية أيضا.

في مقالها الأسبوع الماضي، تحت عنوان «اغتيال الأنوثة وصناعة البويات» تحدثت زميلتنا في «الوطن»، الأستاذة هالة القحطاني، بمنطق تحليلي قائم من موقعها الأنثوي على الرؤية والرصد، للرقابة على الطالبات وتفتيشهن، بما يشبه الممارسة البوليسية في معتقل.

وقد توقفتُ أكثر ما توقفتُ عند قولها: «كانت تمارس الإدارة المدرسية دورها البوليسي، باستخدام أسلوب المباغتة، بقطع الدرس في منتصف أي حصة، من أجل القبض على الأمشاط، كانوا يجعلون الصف بأكمله يقف في محل شبهة، فنضع حقائبنا المدرسية على الطاولات أمامنا، ونضع أيدينا خلف ظهورنا»... الخ.

والجريمة هنا هي مشط أو أدوات تجميل... وهذا هو معنى «اغتيال الأنوثة» لدى الزميلة هالة؛ فالمدرسة إذ تجرِّم طالباتها حين تبدُر منهن بوادر نزوع تلقائي إلى تصوراتهن الأنثوية، فإنها تغتال أنوثتهن وتغرس كراهيتها فيهن.

وإذا قرأنا المخالفات العشر المتعلقة بالزي والمظهر التي أعلنتها جامعة أم القرى، في حق طالباتها اللاتي عاقبتهن بالفصل، فسنجد خوف الجامعة من دلالات «استرجال» طالباتها، واستئنافها الدور المدرسي، منزلقة إلى الممارسة البوليسية ذاتها التي لا تليق بفضاء التربية والتعليم.

وإن المرء ليعجب حقا أن تعجز جامعة علمية عن دراسة ظاهرة «البويات» والمسترجلات من الطالبات، دراسة سيكولوجية وسوسيوثقافية، لاكتشاف أسبابها، ومعالجتها، خصوصا وهي تتهم طالباتها بمظاهرها.

والجامعة -بالطبع- ليست عاجزة، ولكنها مأسورة إلى منظور اجتماعي يعوقها عن أن تكون شجاعة في ممارسة ذلك. فموضوعات من هذا القبيل تجد حرجا وضيقا لدى البعض حتى من عديد الأكاديميين داخل الجامعة، لأنهم يتوهمون أن النتائج العلمية لأي دراسة بهذا الشأن لا تليق بمجتمعنا، ولا تشرِّف الجامعة.

ولذلك فإن قضية هؤلاء الطالبات المفصولات تطرح علينا، فيما تطرح، سؤالا عن دور الجامعة العلمي في الكشف عن المشكلات وحلها، وعن اضطلاعها بدور تنويري، وهو سؤال اتهامي في الوقت نفسه للجامعة التي برهنت بإدارتها لمشكلات طالباتها على هذا النحو على نفاقها الاجتماعي.