الأسبوع الماضي حضرت في المدينة المنورة على المسرح اليوناني في حديقة الملك فهد فعالية غنائية أو «إنشادية» كما يقولون، لكنها بآلات موسيقية، وهي أشبه بأوبريت يحكي تاريخ المدينة، لذلك اختلط في هذا الفعالية النشيد الديني والأغنية الوطنية، واللافت أن هذه الفعالية كانت جماهيريتها ضخمة جدا على مدى اليومين اللذين تكررت فيهما الفعالية.
الأعداد الضخمة تجعل العديد من الناس في تساؤل حول قابلية المجتمع لحضور الفعاليات الترفيهية، وهو ما يعارضها البعض، ولهم الحق في الاعتراض، لكن ليس لهم الحق في منع الآخرين أو التشكيك في أخلاقهم أو أنهم أتوا بمنكر عظيم، لبساطة المسألة كونها لا تحتمل كل هذا التوحش ضد الترفيه البسيط للناس، من غير أن تكون هناك مشكلات أخلاقية كما يتصورها المعارضون.
كتبت وقتها تغريدة مضمونها أنه من الممكن أن هيئة الترفيه نفسها متفاجئة من الأعداد الكبيرة التي تحظر الفعاليات الترفيهية، وهذا أمر مفرح في قابلية الناس للترفيه. هاجمني عليه البعض ولا إشكالية في هذا الهجوم، لكن الإشكالية هو تلك الرؤية التي تنظر إلى كل تلك الأعداد من عائلات ونساء وأطفال ووصفهم بأوصاف خارج عن إطار الأخلاق. فهل بالفعل ينظر المعارضون للترفيه بأنه إفساد أخلاقي للمجتمع، وهل بالفعل ينظرون إلى كل هؤلاء الناس بأنهم منحلون أخلاقيا؟ إذا كان ذلك صحيحا فهو أمر سيدخل في إطار الصراع بين التيارات الذي يمكن أن يجر المجتمع له.
الأسبوع القادم ستكون هناك حفلة غنائية في الرياض، فما المواقف التي سيكونها المعارضون للترفيه مع أنه حفل رجالي خالص. الصراع بين التيارات يمكن أن يجر معه المجتمع الذي لم يشارك التيارات صراعها. ماذا لو ارتفعت حدة معارضي الترفيه في السعودية إلى الصدام الاجتماعي؟ شخصيا لا أتصور ذلك، لأننا اعتدنا المعارضة في البدايات ثم خفوتها لاحقا ونسيانها بالكلية، لكن كل شيء وارد. المهم أن يبقى المجتمع بعيدا عن الصدام ويبقى يمارس فعالياته الترفيهية والثقافية بعيدا عن أي مشكلات.
كان ولا يزال مفهوم الترفيه يحمل سمات إشكالية، إذ كان أدنى أساليب الترفيه حتى لو مباراة كرة قدم تحصل هناك مشكلات كما أتذكر من خطب أيام التسعينات الميلادية. الآن لم يعد ذلك موجودا، وربما نسي الناس تلك الخطب ولا يتذكرونها. نفس الأمر يعود الآن مع الفعاليات الترفيهية التي يحضرها الناس ولا يتوجسون منها. كان أبعد ما يتم الحديث عنه سابقا هو مفهوم الترفيه الحلال. هذا الترفيه الحلال كان يأخذ جوانب ضيقة، فالممنوعات الدينية تتسع مع تأويلات الخطاب الديني التقليدي أو تضيق عند آخرين، لكنها من المهم أن تبقى ذهنية الترفيه تدور في إطار الحلال أو المباحات دون المحرمات. ويبدو أن هذا التصور ما زال في أذهان بعض رجال الخطاب الديني في السعودية، لكنه لم يعد مثل جدته السابقة قبل سنوات. هذا تطور كبير داخل الخطاب وتحول نسبي لكنه فاعل، فالخطاب الديني أصبح منقسما على ذاته، وداخله العديد من التيارات التي تختلف تصوراتها للحياة عن بعضها البعض، لكن يبقى الترفيه بغض النظر عن موقف التيارات منه حاجة إنسانية، وليس فقط من الكماليات.
لعل التصور العام عن الترفيه أنه يأتي لاحقا بعد تحقق كافة الاحتياجات الإنسانية، وهذا صحيح نسبيا، إذ يمكن عدّ الترفيه حاجة أيضا، ولعله من أكثر الجوانب التي يتجاهلها الإنسان بوصفه كائنا عمليا، خاصة في هذا العصر الذي يتم بالحركية والعملية أكثر من أي عصر سابق، رغم أن عملية الترفيه يمكن أن تكون من أهم الجوانب التي تعزز الحالة العملية التي نشأ عليها إنسان الحضارة الحديثة، ولعل الحالة العملية اليومية هي واحدة من مفرزات الحضارة أو الرأسمالية التي يعتبرها البعض متوحشة في بعض جوانبها، كون الاستغلال الاقتصادي يعمل عمله في عملية الإنتاج، مما يعني مزيدا من العمل ومزيدا من الاستهلاك.
بعض المعارضين يذهب إلى أن الفعاليات الترفيهية لا تحمل أي قيمة، وفي تصوري أن هذه رؤية قديمة للترفيه، حيث لا بد أن يحمل أي موضوع رسالة أو قيمة أو هدفا تربويا أو غيره. كل هذا صحيح لكنه لا يعني أبدا أن نحصر الترفيه في الجوانب ذات القيمية. قد يكون الترفيه عن النفس بحد ذاته قيمة لا تحمل أي قيمة من القيم السابقة، إضافة إلى أن للترفيه عالميا بعدا اقتصاديا. وفي الأخير سنجد عددا من القيم في كل عملية من عملياتنا الحياتية، بما فيها الترفيه أو حتى الفنون بشكل عام بوصفها من أهم عمليات الترفيه والتثقيف على حد سواء، وعلى رغم أهمية العمل على الفنون، بوصفها أحد أهم الجوانب الثقافية إلا أنها تدور في إطار محاذير كثيرة من رؤية المجتمع والخطاب الديني، بل وبعض رجال الدولة نفسها لمثل هذه الفنون بوصفها أداة إفساد للمجتمع.
يكفي أن يعزز الترفيه قيمة الحريات، وبغض النظر عن كون هذه من الطموحات القيمية بوصفها قيمة ثقافة عميقة الجذور أو سطحية ترفيهية كما يتصورها البعض، إلا أنه تبقى عامل من عوامل توسيع دائرة الحريات حتى لو لم تملأ الفعالية أي جانب قيمي معتبر.
ليس من الضروري أن نبحث عن قيم تربوية أو ثقافية في كل ما فيه ترفيه في حياتنا على رغم وجودها لا محالة لو أردنا تأويل أفعالنا بحيث يكون لها قيمة. المقصد أن الترفيه بحد ذاته قيمة تعلو ربما على كثير من القيم، فالطبع البشري يحتاج إلى الخروج عن إطاره الملتزم بحياة مثالية كاملة إلى العبث أحيانا ترويحا عن الذات، والمعارضون لذلك تربوا على فكرة الالتزام وهي فكرة دينية ومن قبل كانت فكرة فلسفية وجودية انتهت وماركسية لاحقا، لكن يكسر الترفيه كل ذلك ويقول بأن الحياة جميلة، حيث تعاش بكل تفاصيلها بعيدا عن إلزام النفس ما لا تطيق.