جرت العادة عند أهل العلم في تقريرهم للمسائل الاجتهادية أنهم يذكرون أدلتهم على ما يرجحونه من الأقوال، ثم يتناقشون فيها، أولا: في صحة الدليل، وثانيا: في صحة الاستدلال، وثالثا: في الجواب عن الأدلة المعارضة، ثم بعد النظر والتمحيص قد يتفقون على القول الراجح، وقد يختلفون، وإذا اختلفوا فإن اختلافهم لأسباب يُعذَرون فيها، لأنها ليست مبنية على تعليلات عليلة، ولا على الظن وما تهوى الأنفس، وإنما مبنية على العلم، ومن تلك الأسباب، كون الحديث الذي هو نصٌ في الموضوع لم يبلُغ ذلك العالم، وقد يكون بلغه لكنه لم يثبت عنده إما لأن محدِثَه أو محدث محدثه أو غيره من رجال الإسناد مجهول عنده، أو متهم أو سيئ الحفظ،أو لاعتقاده أن لا دلالة في الحديث، أو لاعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مُرَادة، مثل معارضة العام بخاص أو المطلق بمقيد أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب إلى أنواع المعارضات، أو اعتقاده أن الحديث مُعارَض بما يدل على ضعفه، أو نسخه، أو لغير ذلك من الأسباب التي ذكرها العلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، هذه أسباب الخلاف عند أهل العلم، يتناقشون بعلم وعدل وإيمان وخوفٍ من الله تعالى، كلٌ منهم رائده الدليل، يدورون معه حيث دار، وإذا تبين لهم الحق تمسكوا به وعضوا عليه بالنواجذ، ويَحْذَرون أشد الحذر من تقديم آرائهم وآراء شيوخهم أو غيرهم على قول الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، امتثالا لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنو لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم)، هذا هو حال العلماء الراسخين عند اختلافهم في المسائل الاجتهادية، ومع أنه ورثهم - بحمد الله - طلاب علم يسيرون على هدي علمائهم الراسخين في تعظيم النصوص الشرعية، إلا أنه مع الأسف نبتت طائفة من المتعالمين، يتكلمون في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولأنهم ليسوا من أهل العلم لم تكن آراؤهم وخلافاتهم مبنيةً على أدلة وبراهين شرعية، على النحو الذي سار عليه العلماء كما تقدم، وإنما خلافاتهم حسب أهوائهم، فإن كان الدليل الذي يدل على ما لا يهوونه، موجودا في السنة المطهرة، قالوا حسبنا القرآن الكريم، ولا يحتجون بالسُنَّة، وكأن القرآن الكريم ليس فيه قوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وإذا رغب أحدهم في تصدير منكر من المنكرات الموجودة في دول العالم إلى بلادنا، ووجد الأدلة المانعة لما يهواه أمامه كالجبال الرواسي، لجأ إلى الاستدلال بكلام إنشائي لا خطام له ولا زمام، أبطله الله في كتابه الكريم، كقول: أكثر من في الأرض يفعلون هذا الأمر الذي يحرمه علماؤنا، ولا يمكن أن يكون الناس كلهم على باطل، وعلماؤنا على حق!
سبحان الله هل هذا دليل يُواجه الإنسان به ربه يوم القيامة؟! يقول ربنا سبحانه وتعالى (ماذا أجبتم المرسلين)، ولا يقول: ماذا أجبتم فلانا وعلانا، ولا الأكثر ولا الأقل، فالعبرة بالدليل، سواء فعله أكثر من في الأرض، أم أقل من في الأرض، لا عبرة بالكثرة ولا بالقلة، بل إن الاحتجاج بالأكثر هو أحد مسائل الجاهلية التي خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام محمد بن عبدالوهاب (إن من أكبر قواعدهم - يعني: أهل الجاهلية- الاغترار بالأكثر، ويحتجون به على صحة الشيء، ويستدلون على بطلان الشيء بغربته وقلة أهله، فأتاهم بضد ذلك وأوضحه في غير موضع من القرآن)، قال الله تعالى (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، وقال تعالى (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)، وقال (وقليل من عبادي الشكور)، وقال (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم)، والمقصود أن هذا الاستدلال في غاية السقوط والبطلان، ومعلوم أن من يدين بغير الإسلام أكثر ممن يدين بالإسلام، فهل معنى هذا أن الحق معهم لكونهم الأكثر، هذا لا يقوله مسلم يعقل ما يقول، وأما القول بأنه لا يمكن أن يكونوا على باطل وهم الأكثر، نقول: لماذا لا يمكن، وما الدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله أنه لا يمكن؟
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عُرِضت عليَّ الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي ليس معه أحد...الحديث)، والشاهد قوله: والنبي وليس معه أحد، فمع أنه وحده، ولم يأت معه أحد، إلا أنه على الحق، ومن لم يتبعه على باطل، ولا إِخال مسلما يصوِّب المخالفين للنبي لكونهم كُثُرا، وهو واحد، إلا إن كان غير عاقل، فحينئذٍ لا يستحق أن يُخاطَب بالحجة لأنه لا يعقلها.
فاللهم اهدنا وإخواننا صراطك المستقيم.