لنتخيل القاعدة في المملكة كخط إنتاج، سنجد كثافة أمنية في نهاية الخط، قصص نجاح تترى، تفكيك خلايا، مخططات ومخابئ أسلحة تكشف، مصادرة أموال، إعادة تأهيل، جمع معلومات، اعتقال عناصر، نشعر بعدها بالاطمئنان، نشكر الله ثم رجال الأمن المستيقظين الذين لو غفلت عينهم خمس دقائق لنجح الإرهاب في ضربة ما مكلفة على المجتمع والدولة.

لنرجع إلى بداية خط الإنتاج، الصورة قاتمة هنا، لا يوجد أحد غير القاعدة، ومن حام حولها عالما أو متجاهلا، هنا لا بد أن نعترف بالفشل، هنا تنشط القاعدة فتجند شابين من أبنائنا كل يومين، هذا معدل نجاح خطير، بل لا بد أن المعدل أكبر، فحسبتي قائمة على أرقام بيان وزارة الداخلية الأخير والذي حدد عدد أفراد الخلايا المضبوطين خلال الثمانية أشهر الماضية، 124 شابا سعوديا (لم أحسب الأجانب) خلال ثمانية أشهر، لابد أن هناك من لا يزال مجهولا، يقف بجوارك في المسجد فلا تعرفه، فهو يصلي صلاتك، ويقرأ قرآنك، ولكنه يحمل لمجتمعه غير ما تحمل، ويجيز لنفسه من الحرام ما لا تجرؤ أن تفكر فيه.

هؤلاء إنتاج القاعدة اليومي، تضخ بهم بيننا، في مدارسنا، وإداراتنا، يصادقون إخواننا، بينما وزعوا لمختلف المهام، بعضهم يسقط في يد الدولة، البعض لا يزال ينشط بيننا، فماذا فعلنا في بداية خط الإنتاج؟

ما لم ننتصر هناك، فلن ننتصر أبدا، غصة تعكر كل إنجاز أمني يتحقق، فالانتصار الحقيقي هو يوم أن نسد كل المنافذ والأسباب المنتجة للقاعدة، كيف؟ لا أعرف، وأحسب أن غيري لا يعرف، إذ لو كان يعرف لسد منافذ القاعدة في بداية خط الإنتاج منذ زمن، ولكن يجب أن نعرف. فلا نهاية للقاعدة وخطرها ما لم نصل إلى صيغة ما نستطيع بها أن نغلق أسباب التجنيد أو على الأقل إلى حد أدنى ألا يشكل تهديدا، فمعدل إنتاج اثنين كل يوم لا يبشر بخير ومدعاة للقلق.

الأمن يقوم بدوره بشكل باهر، دليل نجاحه هو الأمن الذي نعيشه، ولو غفل لحظة لمال علينا 3 من القاعدة ليرتكبوا جريمة ضد مسؤول، أو مقيم، أو مثقف، أو منشأة اقتصادية، كل الذي يهمهم أن يقول صحفي غربي "القاعدة لا تزال نشطة في المملكة العربية السعودية" فنخسر استثمارا جديدا أو ترتفع تكلفة مشروع، وظيفة الأمن ليست في بداية خط الإنتاج، هنا يجب أن يقف العلماء وطلبة العلم والمثقفون والتربويون صفا واحدا ضد القاعدة، ولكن كيف؟

نحتاج إلى ورشة عمل مغلقة، كي نصل إلى خطة عمل، ورشة تضم خبراء، من كل الأطياف، خاصة المتعارضة، فمن النقاش ينبثق النور، نتجرد فيها من كل شيء إلا الإيمان بعدالة هذا الدين، وحب هذا الوطن والحرص عليه، نتناقش، نختلف، نختصم، نقلب أسفل كل حجر، ننظر في كل كتاب، ننقد كل فكرة، نتوقف عن الإنكار، نتفق أولا على أن المشكلة محلية، وأن تداخلاتها الخارجية تأثرا وتأثيرا لا تلغي محليتها، يكون بيننا محكم أو أكثر لضبط النقاش.

سنصل إلى أبواب موصدة، سنختلف، قد يتهم بعضنا البعض بما يسيئه، سيتعصب بعضنا لرأيه، سنقول إنه لا فائدة من النقاش، ثم نقف أمام باب موصد، ونسأل، ولكن القاعدة مستمرة في التجنيد، لا تزال تقتنص من أبنائنا واحدا أو اثنين كل يومين أو ثلاثة، بينما نختصم ونتجادل.

سأحتمل أخي عندما يقول متهما، أنتم الليبراليون السبب، بطرحكم المتفلت، دعواتكم إلى عمل المرأة وقيادتها للسيارة، ضيقكم من المناهج الدينية، احتكاركم للكلمة في الصحيفة، عدم احترامكم للعلماء. ولكن على أخي الشرعي أن يسمع مني أيضا، سأسأله عن الكم الهائل من الفتاوى المتشددة التي لو طبقتها الدولة لما تحركت قيد أنملة ولتعطلت التنمية، سأسأله عن إغراق المجتمع بالتخويف والتخوين، واتهام مثقفيه وإدارييه بل حتى أولياء الأمر بالتغريب. كم هائل من الأسئلة والشك نثرتموه بيننا، استغرق جهدنا ووقتنا، ووتر علاقاتنا، ونزع البركة من أعمالنا.

في هذه الأثناء يجلس في ليل هادئ شاب في الثلاثينات يحدث شابين في خلوة عن الجهاد وفضله، والاستشهاد وأجره، ومؤامرات الغرب وحزبه لتدمير الإسلام، واقتلاعه من الصدور، وأن الحكومات متواطئة أو عاجزة، وأن العلماء مقصرون إما يداهنون سلطانا أو غير مدركين لحجم المؤامرة، وأنه لا حل إلا بالجهاد والسلاح والقتل حتى ينتبه الناس من غفلتهم ويخرج العلماء من عزلتهم، ويتميز الصف، فلا ينتهي المجلس إلا وقد حصل على بيعة من شاب أو أكثر لم يتجاوز الثامنة عشر، ليشعروا بعدها أنهم أهم شباب البلاد وأعلاهم همة.

يمر أحدهم بسيارته علينا ونحن نتجادل أمام المبنى الذي كنا مجتمعين فيه، بعد جلسة عاصفة لم نتفق فيها، لا يزال النقاش محتدما بيننا، يسمع بعضا من حوارنا، يراه بعضنا فيبتسم إليه، يرد الشاب بابتسامة فيها ازدراء، ويمد يده إلى لفافة بجواره تضم عجينة متفجرات، يتحسسها ويقول "لن ينفع معكم جميعا إلا هذا"، ويمضي بسيارته بعيدا في هدأة الليل.