يبدو أن رابطة القربى والنسب بين القاعدة كجناح عسكري للتشدد، وبين التشدد بأجنحته النظرية، أعمق مما كنا نتوقع، خاصة حين يتكاثر التشدد فيما بيننا مع إيماننا بأهمية الحوار معه، والدخول في نقاشات وسجالات فكرية، وتدريب مستمر على القبول والإيمان بالاختلاف، حتى حين كانت الكثير من الأصوات المتشددة تردد في أكثر من نقاش، بأن ما ينشر من كتابات ومقالات هي أمور تثير من تسميهم بالشباب المتحمس، كنا نتوقع بأن هذا مجرد نوع من اللجج الذي تعودناه كثيرا في نقاشات التشدد، إلا أن الواقع الآن يثبت خلاف ذلك.

الواقع يؤكد بأن خصومة الإعلاميين ليست خصومة مباشرة مع القاعدة، ولكنها خصومة مع التشدد، خاصة مع كل حالات الفشل التي تعتري الخطاب المتشدد والتي تثبت عدم قدرته على تجديد خطابه، وإيجاد خطاب واع ومستنير، وبالتالي فالتشدد الديني هو الذي يمثل الخلفية والحافز الأبرز للقاعدة، كخلايا عسكرية مسلحة، وليس الحافز سياسيا ولا اقتصاديا، وهو ذات الحافز الذي يمثل منطلقا لكثير من عمليات الإنكار والاحتساب التي يقودها متشددون في مواجهة مختلف الأفكار والأطروحات الإعلامية.

يختبئ خلف أصوات التشدد الديني، وإن حاولت أن تكون عالية، يختبئ خلفها ضعف وإنهاك شديد، بفعل الغربة التي يشعر بها التشدد ويعيشها وهو يواجه حياة وأفكارا جديدة يسعى لإنتاج خطاب فقهي يحترف الممانعة والمخالفة والإنكار. القاعدة لم تعد خلايا بالمفهوم العنقودي التنظيمي للخلايا، وإنما باتت حزمة من الأفكار المتشددة التي يمكن لكل من يعتنقها أن يشكل قاعدة خاصة به، سواء أكانت تلك القاعدة في أحد جبال اليمن أو في أحد منتديات ومواقع الإنترنت، فالفريقان ينطلقان في كل فعاليتهما من قيمة دينية واحدة وهي: الإنكار، مع اختلاف في الأدوات والتوقيت والأسلوب فقط.

تعرّض التدين المتشدد في السنوات الأخيرة للعديد من الضربات التي قادها الإعلام، وذلك نتيجة لغياب خطاب ديني، يستطيع أن يفكك أفكار التطرف والتشدد وأن يقدم خطابا فقهيا بديلا مناسبا ومؤمنا أنه في زمن الدولة وزمن المؤسسات، وإن كانت الساحة قد شهدت حضور أصوات دينية مستنيرة وواعية، إلا أنها هي الأخرى تعرضت لكثير مما يتعرض له الإعلاميون من هجوم واستعداء وتبديع وتفسيق على أكثر من مستوى، ليصبح من الواضح أن خصومة التشدد هي خصومة مع مخالفيه، ومع الأفكار التي يرى أنها تحرج حواسه وقيمه المتشددة.

يكشف التشدد ذاته حين يهدد بشكل غير مباشر بالعنف وكأنه أحد أسلحته المخبأة، فيعترض على كثير من الأفكار بأنها ستثير من يسميهم (الشباب المتحمس) ويالها من تسمية لطيفة ورقيقة وغاية في الأدب والاحترام، وهذا في حقيقة الأمر مجرد انكشاف واسع جدا لما يمثله العنف من ورقة ضغط يلعب بها التشدد، ويقدم من خلاله تلك الشراكة الحقيقية بين العنف النظري وبين العنف المسلح.

إنه نوع من التلويح بالقاعدة، وسعي لتحويلها إلى ورقة ضغط، فيما أن الواقع يؤكد أن الدولة من واجبها أن تسمح بتعدد الآراء والنقاشات المعرفية والفكرية، لكن أية مواجهة مسلحة مع الدولة ومع المجتمع فلا مكان سوى لضربها أمنيا وبكل قوة. تلك الضربات التي نجحت في إخراج القاعدة من الأراضي السعودية، إخراجا على مستوى التنظيم والقيادات والتجمعات، لتبدأ المرحلة الثانية وهي إخراجه على المستوى الفكري والعقائدي، وهي وظيفة لا يشترك فيها رجال الأمن، بل رجال الوطن أيضا، ولأنها مواجهة فكرية فجنودها في الداخل السعودي هم المعنيون بصناعة الأفكار ونقدها من كتاب ومثقفين وإعلاميين.

الآن تعيش القاعدة خسائر كبرى جدا في الداخل السعودي، وهو الذي جعلها تبحث عن ملاذات جديدة لها خارج المملكة، ولكن لتجعل من ميدان المعركة الأبرز بالنسبة لها في الداخل السعودي، وحتى مختلف الخطوط التي كانت تحاول القاعدة التحرك من خلالها سعوديا على مستوى التمويل أو الدعم اللوجستي، قد قطعت هي أيضا، ولذا بدأت تتحرك القاعدة وفق الرابط الفكري والاعتقادي، لأنها تدرك أنها تلتقي كثيرا مع أصوات التشدد في الداخل، وترى فيها حليفا نظريا على الأقل.