العمليات الإرهابية الأخيرة التي نفذها تنظيم داعش أخذت مكانها في سيناء، وراح ضحيتها مجموعة من المصريين، من أتباع الديانة المسيحية، تطرح مجموعة من الأسئلة حول ما شهدته المنطقة العربية، خلال السنوات الست المنصرمة، وتحديدا في البلدان التي طالها ما بات يعرف بالربيع العربي.
فالملاحظ أنه بخلاف التحولات السياسية الكبرى التي شهدتها البلدان العربية، منذ حركة اليقظة العربية، انطلق العنف في معظم الأحيان من الأطراف والمناطق النائية، مخترقا المدن الرئيسية.
لقد انطلقت حركة اليقظة العربية من بلاد الشام، من بيروت وبغداد. وكانت القاهرة وبغداد من محطات عصر التنوير العربي. وكانت معظم نخب التنوير قد انحدرت من الطبقة المتوسطة، صانعة الإبداع والفن والفكر. ومن حسن طالع الأمة العربية أنها زخرت بمدن قديمة، كان لها إسهاماتها الكبيرة. وحين يذكر الدور التاريخي للمدن العربية تحضر بقوة أسماء بغداد ودمشق والقاهرة والإسكندرية وحلب وفاس وصفاقس وصنعاء. ويرتبط اسم كل مدينة بحقبة نهوض تاريخية، أموية وعباسية وفاطمية وما إلى ذلك.
في العصر الحديث، لعبت هذه المدن أدوارا رئيسية في بروز اليقظة والتنوير، وقيادة مقاومة الاستعمار التقليدي. لكن الخنادق الاجتماعية تداخلت مع بعضها فيما بعد، حيث شهدت العقود الأخيرة تراجعا لدور هذه المدن وبروز ظواهر التطرف التي تمترست في الأطراف.
ويمكن القول، إن البلدان العربية مرت بخمس حقب منذ انطلقت حركة اليقظة العربية في مواجهة الاستبداد العثماني.. عبرت الحقبة الأولى عن نفسها في حركة تنوير حقيقية انفتحت على الفكر الإنساني، وتنازعها توجهان. طالب الأول بالقطع مع الماضي، وتبنى موقفا حداثيا بامتياز، أما الآخر فرأى في الموروث ما يكفي لكي يستعيد العرب دورهم، ويشاركوا بفعالية بالحضارة الإنسانية.
وكما أسلفنا فإن معظم رواد حركة اليقظة هم من أبناء الطبقة المتوسطة، من الذين مكنتهم أحوالهم المعيشية من تعليم أبنائهم بالجامعات المرموقة في فرنسا وبريطانيا، ودول أوروبية أخرى. وعلى الأغلب كانت باريس المركز الذي نهلوا منه المعارف السياسية والاقتصادية في جامعاتها المرموقة. وعادوا إلى بلدانهم ينافحون الاستعمار العثماني، ويبشرون بعهد جديد.
انتهت الحقبة الأولى بنهاية الحرب العالمية الأولى، ووضع اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور قيد التنفيذ. لقد مثل ذلك ضربة قاصمة لمشروع التنوير، مفسحا المجال للإسلام السياسي لأن يأخذ مكانه، منذ نهاية العشرينيات من القرن المنصرم، وليشكل هذا التيار إسفينا في خاصرة التوجهات السياسية التي مثلها حزب الوفد رائد الاستقلال، وقائد ثورة 1919، ومن خلال تحالف هذا التيار مع حكومة إسماعيل صدقي، المعادية للتوجهات المدنية.
عكست التمظهرات السياسية الجديدة تراجعا لدور المدينة ولمشاريع التمدين، وبروزا لدور الأطراف. فرواد الإسلام السياسي وفدوا في الغالب من الأطراف، بعيدا عن المدن التي انطلقت منها حقبة التنوير. ويمكن التأكد من هذه الطريحة سيرهم الذاتية. فهؤلاء في غالبيتهم ينحدرون من الأرياف ويعادون نمط العيش بالمدن، ويقفون بالضد من كل ما يمت للتمدين من أفكار.
جرت في هذه الحقبة مزاوجة بين تيار الإسلام السياسي، والسياسيين الذين مارسوا السياسة من بوابات مواجهة العجز عن التصدي للاحتلال الأجنبي. وانتهت هذه الحقبة بنكبة فلسطين عام 1948. لتتبعها مرحلة الانقلابات العسكرية.
أما الحقبة الثالثة فهي حقبة الانقلابات العسكرية، وقد استمرت حتى نكسة الخامس من يونيو 1967، وخلالها تزايد عدد السكان، وحدثت هجرات كبرى من الأرياف إلى المدن العربية الكبرى. وبدأت مرحلة ترييف حقيقية للمدن العربية. وكانت معظم القيادات السياسية الجديدة نتاج تلاقح بين الريف والمدينة.
لقد نشأت القيادات السياسية الجديدة في الريف والمدينة في آن واحد، ولهذا فهي في التحليل الاجتماعي فئة هجينة مرتبطة ثقافيا واجتماعيا بأصولها المركبة. إنها تشكل كيانا نابعا من ظروف نشأتها التاريخية، ووضعها الهامشي في سياق الإنتاج. وذلك ما يفسر ازدواجيتها وفشلها وعدم استقرار اتجاهاتها السياسية والاجتماعية.
كانت هزيمة يونيو 1967 بداية للحقبة الرابعة في التاريخ العربي، وللأسف فإن البديل عن الحقبة السابقة لم يكن عودة عصر التمدين، بل كان إيذانا بانتعاش جديد لتيارات الإسلام السياسي. وحين شن الكيان الصهيوني هجومه على الفلسطينيين في لبنان واستباح مدينة بيروت، أحد المعاقل المتبقية من ذلك العصر، تضاعف حضور الإسلام السياسي بالمنطقة العربية.
لقد اختمرت ردود فعل غاضبة عنيفة في بنيان الأمة، واستمد الشباب العربي حيله من ماضيه، لتحقيق توازنه، في وجه محاولات تغريبه. وكانت ردة الفعل هي الانخراط في الحفل المعمد بالدم، وتحقيق انتحار جمعي. وكان موسم ربيع التطرف قد بدأ يتحرك بقوة منذ تلك الحقبة، متخذا من أفغانستان مركزا انطلاقه.
في الحقبة الخامسة سقط الاتحاد السوفييتي وانتهت الحرب الباردة، وتوجت الولايات المتحدة قطبا وحيدا على عرش الهيمنة الدولية. ولأن ذلك نشاز في التاريخ الإنساني، والكون لا يقبل الفراغ، فكان لا بد أمام هذا الفراغ أن تملأه طحالب من نوع آخر. طحالب قدمت من الأطراف، وتماهت مع مشاريع مشبوهة في تفتيت المنطقة، والقضاء على أي دور تاريخي محتمل للأمة.
وقد وجدت هذه الطحالب ضالتها في احتلال أميركا لأفغانستان والعراق، واستثمرت «الربيع العربي»، لتحرق الأخضر واليابس، ولتصادر كيانات وتسقط هويات. وتسببت في خروج أربعة أقطار على الأقل من الخارطة السياسية العربية. ولسوف نظل في حالة مواجهة لا تنتهي إلا أن نغلب العناصر القادرة على أن تجعل منا ترسا فاعلا في مسيرة الإنسانية الصاعدة، فنكون قادرين على الالتحاق بالعصر الكوني الذي نحياه.