أتصور أن هذه المرحلة التي نعيشها هي مرحلة جديدة وحاسمة في التحولات الاجتماعية والثقافية؛ إذ سيكون لها الكثير من التأثيرات على الأفكار السعودية من خلال القابلية للانفتاح من خلال المسألة الترفيهية. الترفيه يمكن أن يقود المجتمع إلى مناطق جديدة لم يكن يعلم عنها شيئا وربما تكون مفاجئة في مدى عاديتها. المجتمع السعودي واحد من المجتمعات المؤثرة ثقافياً على مستوى الخليج كله، وهذا شيء مفارق اجتماعياً، إذ على الرغم من أنه كان مجتمعاً يتسم بالمحافظة الاجتماعية والانغلاق لسنوات طويلة إلا أنه استطاع اختراق هذه المحافظة والانغلاقية، ليكون من المجتمعات التي تعتبر ثقافية إذا ما قورنت مع مجتمعات سبقتها، إذ تتصاعد معدلات التعليم في السعودية، في حين تتراجع في مصر، رغم أن مصر كانت أسبق بكثير من المجتمع السعودي من الناحية الحضارية. ووجود السعوديين في القنوات الفضائية يعادل وجود غيرهم من الرجال والنساء على حد سواء، بل والقيمة الترفيهية التي تعتمد عليها بعض الدول المجاورة، فإن الحضور السعودي يكون له أثره البالغ، فالحفلات الموسيقية في الإمارات والبحرين مثلا يكون معظم الحضور فيها من السعوديين، وحينما تم إنشاء هيئة الترفيه في السعودية فإنه ربما كان من المدهش مدى قابلية المجتمع لحضور الفعاليات التي تحصل بين فترة وأخرى، على الرغم من كل المعارضة الفكرية من قبل التيار الإسلاموي (على اختلافه في هذه المعارضة كذلك).
وعلى ذلك فإنه من المهم رصد كافة التحولات الحاصلة حاليا، لأنه يمكن أن تؤثر في الوجدان والأفكار السعودية في السنوات القليلة القادمة، لأن التعاطي مع التحولات هو تعاط قسري، أقصد أنه تعاط من النوع الذي لا خيار للمجتمع في قبوله أو رفضه. الحداثة لا تستأذن في الدخول كما يقول محمد سبيلا، والمجتمعات بطبيعتها متحولة وعلينا أن ننظر إلى التحول الحالي بشكل طبيعي من غير خوف ولا تردد، لأنه سمة الحياة كلها وليس سمة مجتمع عن مجتمع.
من المؤكد أن رصد التحولات لا يأتي خلال فترة قصيرة فهو يحتاج إلى متابعه طويلة ومستمرة لأن التحولات دائمة، فخلال سنوات صغيرة تتحول أشياء كثيرة. التفاعل الترفيهي من قبل الناس وقابليتهم لخوض التجربة لم يتوقعه أحد، حتى على أولئك الذي يهتمون برصد تحولات المجتمعات فيما أتصور.
من المهم متابعة هذه التحولات ونوعيتها، فإن كانت من النوع الذي يدخل في بنية تكوين المجتمع الفكري والثقافي، فإن الثقة بذلك سوف تكون في محلها، أما إذا كانت شكلية أو سطحية التحول، بمعنى أنها لم تلامس العمق الثقافي للمجتمع، فلسوف يبقى تحرر المجتمع مرهوناً بالقوى المحركة للمجتمع، وللأسف فإن هذه القوى تقليدية الطبع وتحولاتها شكلية، لذلك فمن هنا لا يمكن الجزم بتحول المجتمع في ظل المعطيات الحالية، وإذا تغيرت المعطيات خاصة السياسية منها، فقراءة تحول المجتمع مرهونة بقراءة المعطيات، ولكل معطى حادثة وحديث خاص بها، ولعل الأهم في ذلك هو رصد القيمة التفاعلية التي يمتلكها الشباب والشابات في هذا الوطن، فالتحولات قد تكون سريعة، حيث إنها يمكن أن تعتمد مدى التوهج الشبابي الذي لم يكن مصقولا من قبل بسبب مشكلات المجتمع التي صاروا هم ضحية لها فيما سبق، والصراعات التي قد تذهب بفاعليتهم أدارج الرياح، لكن المعول عليهم في تغيير البنى الفكرية والاجتماعية للمجتمع هم غالبية المجتمع السعودي من الشباب، وما يفعلونه في عالم شبكة الإنترنت أكبر من أن تستوعبه أفكار الأجيال السابقة لهم، فتطلعاتهم المستقبلية تنم عن توجه جديد بدأ يتبلور في السياق الثائر على القيم المعهودة للمجتمع.
وجد الشباب ضالتهم في صفحات الإنترنت والتواصل مع العالم، والتواصل فيما بينهم، والمستقبل أمامهم بكل رحابته، لكن المشكلة ليست فيهم بقدر ما هي في القوى التي تريد أن تحد من انطلاقتهم، سواء أكانت قوى اجتماعية أو قوى دينية أو سياسية. ومن يحاول رصد تحرك المجتمع فمن الواضح لديه أن شباب اليوم أكثر تحدياً للقيم المجتمعية التقليدية من شباب الأمس، وهذا بفضل انفتاحهم على العصر ومنجزاته التقنية التي فرضت قيماً غير القيم المعهودة، لذلك فمن الطبيعي أن تتغير البنى الفكرية والاجتماعية في عقولهم وفي عقول مجايليهم، وإذا ما بقي الوضع على هذا التبلور، إذا لم ينحرف بسبب تدخل قوى خارج إطار الرؤية الشبابية للواقع وللعالم كنوع من محاولات إعادة توهج الشباب إلى الحظيرة التقليدية، فإن المجتمع السعودي سوف يتغير في غضون سنوات قليلة ربما بأسرع مما كنا نتوقع.
ما يحصل من قابلية اجتماعية وشبابية للفعاليات الترفيهية والثقافية في المملكة هو تحول على مستوى التفكير والرؤية الثقافية للفنون بشكل عام، فالتصالح مع الفنون يشي به ذلك التفاعل الكبير بين أفراد المجتمع، وحرصهم على حضور الفعاليات الفنية، خاصة تلك التي تخرج عن إطار المأسسة أو التواجد داخل مؤسسة محددة، وتكون في الساحات العامة، وهذا يضرب في مفهوم النخبوية الثقافية التي كانت رائجة من قبل، والنظر إلى المجتمع من أبراج عاجية، فالمجتمع منفتح على تلك الفنون والقيم الثقافية المشتركة، ويتعامل معها بشكل أفضل مما كان، رغم المعارضة التي تنتج من هنا أو هناك، لكنها معارضة يبدو أنها لم تعد بتلك القوة، إذ بدأت تتراجع من تغيير المنكر باليد حسب المفهوم الخاص للمنكر عن التيار الإسلامي، إلى الاكتفاء بالاستنكار على شبكات التواصل، فضلا على أن التيار الإسلامي نفسه منقسم في مسألة المعارضة هذه، إذ يتقبلها البعض بوصفها من القضايا الخلافية التي لا يصح معها الإنكار. فهل يقود الترفيه في المجتمع السعودي إلى مزيد من التطور والانفتاح الاجتماعي؟ لا أعلم لكن يبدو أن بعض المعطيات أنها تقول بذلك ما لم يكن هناك بعض الأحداث التي يمكن لها أن تعود بنا إلى المربع الأول.