تعمل الدار التونسية مسكيلياني بذكاء وجودة، في أحد خطوط إنتاجها، على انتقاء الروائع الملهمة، لتخرجها بترجمات جديدة. بين يدي هذه المرة العمل الصغير الكبير «لاعب الشطرنج» لكاتبه ستيفان زفايغ، بترجمة سحر ستالة.
لم يحتمل الأديب النمساوي فظاعات الحرب العالمية الثانية، فقرر وزوجته بإقدام هادئ أن ينتحرا معا في 1942 جلسا في غرفة نومهما في البرازيل، وراح يكتب 192 رسالة لأصدقائه، يشرح لهم سبب إقدامه على الانتحار. حين انتهى ابتلع وزوجته جرعة قاتلة من الحبوب المنومة، ثم تعانقا وناما للأبد.
لاعب الشطرنج رواية عبقرية من سبعين صفحة، فتى صغير اسمه كزنتوفيك، ابن بحار يوغسلافي، فارغ الدماغ، حتى إنه لا يستطيع كتابة جملة واحدة دون خطأ، لكنه وبشكل محيّر برع في الشطرنج من سن الثانية عشرة، بدأ بهزيمة أبناء قريته، ثم المدينة، وحين بلغ العشرين كان قد أصبح بطلا للعالم. يحدث أن يكون على متن سفينة متجهة إلى ريو، وبينما يجتمع الناس لملاعبته، وهو يسحقهم واحدا واحدا، تظهر شخصية أخرى، السيد «ب» الناجي لتوه من غرفة صغيرة، في سجنٍ نازي، ليس بها سوى طاولة ومرحاض وسرير وكوّة صغيرة، وكتاب عن قواعد لعبة الشطرنج، ورسومات مئة وخمسين مباراة لعباقرة اللعبة، حفظها في ثلاثة أشهر، وأعاد المباراة الواحدة في خياله عشرات المرات، ثم بدأ بابتكار خصمه الداخلي، وراح يباري نفسه، وفي لحظة من لحظات الهوس أصيب بنوبة مدمرة، نقل على إثرها للمستشفى، وهناك أنقذه تقرير الطبيب من العودة للسجن. وتحدث الصدفة أن يلتقي ببطل العالم في الشطرنج على متن السفينة، وهو الذي لم يلمس اللعبة أصلا إلا في خياله منذ خمسة وعشرين عاما. تقع المفاجأة، ويهزم بطل العالم. انسحب من الجولة الثانية وهو على حافة خياله القديم، كان على وشك الجنون مرة أخرى.
الرواية تحمل مرارة غريبة، ستيفان لا يخبرك الكثير عن سجن السيد «ب»، لكنه وفي صفحات قليلة يجعلك تختنق، يطلعك على الهوّة اللعينة التي يطفئ فيها الفراغ جذوة الإنسان ببطء سام. تهدمت طرق مقاومته كلها، لتصمد قوة واحدة مرعبة؛ الخيال. وهو ما تمكن به أن يهزم بطل العالم، ونفسه أيضا.
«تسمّر كزنتوفيك المحترف في مكانه من بداية المباراة حتى نهايتها، وعيناه تحدقان في رقعة الشطرنج، لا يرفعهما أبدا. كان يبدو أن التفكير يتطلب منه بذل مجهود جسدي، يزيد في شد جميع أعضائه. في حين كان السيد «ب» يجلس بكل ارتياح، وكانت حركاته عفوية ولينة. إنه يمثل الولع بالفنون في أعلى تجلياته، لم يكن يرى في اللعبة إلا وسيلة للمتعة، وكان يقدم لنا شروحا لحركاته بتهكم، ويشعل سيجارة بحركة لا مبالية، ولم يكن ينظر إلى رقعة الشطرنج إلا قبل أن يلعب حركته بدقيقة واحدة»، يا لها من رواية!