يروى أن عالم النفس الشهير سيغموند فرويد عندما أصيب بسرطان الفكّين، تردّد طبيبه بإخباره بالأمر ولكنه قرّر أخيرا بأن رجلا بالمستوى المعرفي الناضج الذي كان فرويد عليه ينبغي أن يعرف بأمر حالته على وجه الدقة. ولكن ما إن أخبره بها حتى فاجأه فرويد بقوله: «من الذي سمح لك بالبوح لي بهذا؟».

صدر فرويد في عبارته التي وجهها إلى طبيبه عن مذهبه المعروف من أن الأولى بالطبيب استعمال التمويه على مريضه عندما يتعلق الأمر بخبر قد يؤدي إلى زعزعة مقاومته النفسية. وقد حاول الاتساق مع هذا الرأي حتى عندما صار هو في موقع المريض المفترض.

سألت عددا من الأطباء ممن تضمهم دائرة معارفي عن الحالات التي من الممكن أن يسوغوا لأنفسهم مجانبة الحقيقة عند مخاطبة مرضاهم، فتمحورت إجاباتهم رغم اختلاف أمثلتها حول ما يتصورونه من مصلحة للمريض في إخفاء بعض الحقائق عنه، بل حتى عن بعض ذويه أحيانا، خصوصا في الحالات المتعلقة ببعض الأمراض المستعصية في مراحلها المتقدمة.

هناك مدارس طبية لا توافق على هذا الأسلوب ولا تجيزه، بل تتحيز إلى الرأي القائل بوجوب مصارحة المريض بحقيقة وضعه، واعتبار إخفائها عنه بمثابة السطو على شيء من أخص حقوقه، وهو فرصته في اتخاذ قرارات مبنية على معرفة واضحة بحالته. ولكن مذهب إخفاء بعض الحقائق أو تمويهها على المريض ما زال يجد مسوغاته الأخلاقية إلى الدرجة التي تدفع بعض الأطباء برفض وسمها بالكذب عند تناولها بالحديث.

لعلنا نحسن الظن كثيرا بالجنس البشري عند تصورنا بأن (كذب) الأطباء مقتصر على تلك الحالات التي تتموضع في المنطقة الرمادية من فلسفة الأخلاق.

يغشى مهنة الطب ما يغشى غيرها من قابليتها للتلاعب التجاري الذي يهدف إلى رفع الأرباح بشكل لا أخلاقي، بما في ذلك الكذب على العميل أو غشه بتجشيمه تكاليف لا ضرورة لها في الواقع. ولكن يصعب تصور حدوث هذا في مؤسسات غير ربحية كالمستشفيات التي تقدم خدمتها بشكل مجاني مثلا. ولكن ما مدى امتناع الأطباء عن مجانبة الحقيقة عند الحديث إلى مرضاهم في مؤسسات كهذه؟

يشكو عمل الطبيب من مفارقتين متضادتين، إذ إن ميدان عمله قائم في الأساس على معرفة يعتورها النقص باستمرار وغالبا ما تميل إلى عدم التأكد، فكل حالة مرضية تقف وراءها سلسلة من المتغيرات الطبيعية، واقعة في مجملها خارج دائرة رقابة الطبيب أو سيطرته. من ناحية أخرى، تتطلب علاقة المريض بطبيبه درجة عالية من الثقة بكفاءته، فما يأتمنه عليه متعلق بحياته على نحو مباشر. يجد الطبيب نفسه مطالبا أحيانا ببعث الثقة في مريضه في الوقت الذي يعجز فيه هو عن الوصول إلى درجة الثقة ذاتها في ما يفعل.

يعالج بعض الأطباء هذه المفارقة المركبة بأن يطلق في بعض الحالات كلاما عاما هلاميا أشبه ما يكون بكلام الكهنة المنفتح على عدة دلالات ليلتقط المريض منها ما قد يريحه، وهو غالبا ما تكون لديه القابلية لذلك بالفعل، فالحال ما زالت كما عبّر عنها اتشلي داناو في كتابه (الطبيب معالجا وعالما) عندما قال: «إن الإصرار الناضج من قبل المريض على معرفة الحقيقة قليل الحدوث، وحتى عند حدوثه فإنه يقوم على سعي متلهف وراء الطمأنينة».

هذا ما قد يجعل احتمال أن تحظى كل إجابة يتضمنها كلام الطبيب بقبول المريض ومغفرته أقرب من أن يحظى بهما امتناعه عن تقديم الإجابة، حيث قد يوحي بعدم أهليته لتسلمه السلطة على جسد مريضه وحياته. ولكن بعض الأطباء يدفعهم هذا الوضع إلى تجنب الإفصاح عن جهلهم أو استغلاق الأمر عليهم في بعض الحالات، وإن تورطوا في الكذب أحيانا تحت مسوغات شبه أخلاقية. رغم بعض الإيجابيات المصاحبة لسلوكهم هذا إلا أنه قد يؤدي إلى احتجاز المريض المنهك داخل سور طبيبه بصرف النظر عن نتائج هذا الاحتجاز.

تستحق العلاقة التخاطبية بين المريض وطبيبه مستويات عميقة من التأمل، حيث إنها تقدم عرضا مكثفا لسلوك السلطة والتكيف معها. تقوم كل سلطة على أنواع من الإيمان المدفوع بالحاجة إليها، وهذا ما قد يتجسد في سلطة الطبيب التي لا تكاد تضارعها سلطة أخرى تقريبا.

تلك السلطة التي أشار إليها (عبدالرحمن منيف) في عبارة لا أتذكر صياغتها تماما إلا أن مقتضاها هو «أن الأطباء أكثر عرضة للإصابة بالتألّه، فهم لا يحظون بفرصة التعامل مع الإنسان إلا في أضعف حالاته وأكثر أطوارها افتقارا لهم»، فرغم أنها عبارة قيلت في سياق ساخر إلا أنها تكشف بشكل ما عن وعورة المأزق الأخلاقي في عمل الطبيب ومدى خطورة سقوطه في فخ الألفة والتعوّد.