عانى الموظفون الحكوميون مع مطلع العام الهجري الجديد من حسومات عالية في رواتبهم بعد حذف البدلات، البعض فقد ألف ريال، والبعض الآخر ربما فقد عشرين ألفا، بحسب الراتب الأساسي ونسبة البدلات التي كانت تضاف له.

ولما كان القطاع الحكومي هو الموظف الأكبر للمواطنين، فإن نسبة المواطنين الذين أحسوا بتأثير هذا التغيير في دخل الأسرة كبيرة. ولعل الطبقة الأكثر تأثرا بذلك هي الطبقة المتوسطة التي يفترض أنها تضم الشريحة الأوسع من المجتمع. هذه الطبقة هي التي غالبا ما ترسل أبناءها للمدارس الأهلية، وتتعالج في المستشفيات الخاصة، وتخرج بشكل شبه أسبوعي للأسواق والمطاعم وما يتوفر من وسائل الترفيه.

ولأن الحسومات كانت فجائية وغير متوقعة، فقد شكلت ارتباكا لدى بعض الأسر. فعلى الجانب التعليمي مثلا، قام بعض الأهالي مضطرين بسحب أبنائهم من المدارس الأهلية في بداية العام الدراسي. البعض الآخر، الذي سبق وسدد الأقساط الدراسية للفصل الأول فضل الانتظار لعل الراتب يتعدل، أو الأسعار تتغير.

اليوم وبعض مضي أشهر تقريبا على هذه التحولات المادية كيف استجاب السوق لها؟.

ما نلمسه حولنا هو أنه لا شيء تغير. لم نسمع عن تخفيضات في الرسوم الدراسية، ولا في سعر الكشوفات الطبية، ولا في تكلفة المواصلات (أسعار التذاكر الداخلية أو سعر البنزين)، ولا في أسعار المواد الغذائية، ولا تكلفة العشاء في المطاعم ولا الملاهي ولا غيرهما، بل حتى ما يقال عن انخفاض أسعار العقارات لا تلمسه الأسرة ذات الدخل المتوسط، فالإيجار لن ينخفض عما كان عليه للمستأجرين سلفا (وما أكثرهم!). ولا توجد ضمانة تمنع صاحب العقار من مواصلة رفع السعر، ولو أن ذلك لن يكون قرارا اقتصاديا حكيما. وحتى ما قيل عن إعادة جدولة الأقساط من قبل البنوك لم يساعد البعض ممن كان قد رتب قروضه الشخصية والعقارية بناء على راتبه القديم. بعض أساتذة الجامعات فقدوا 40% من رواتبهم، وهو الجزء الذي كان يستخدم لسداد الأقساط، فباتوا اليوم فريسة الديون. إحدى الزميلات تحمل شهادة الدكتوراه في تخصص نادر تخبرني بأن أقساطها الشهرية حتى بعد الجدولة توازي راتبها الأساسي، وبالتالي ما إن ينزل الراتب حتى يسحبه البنك، فتحولت بين ليلة وضحاها من شابة متعلمة طموحة تعيل نفسها تماما، إلى امرأة تعيش على الكفاف وتسأل نفسها: لأجل ماذا صرفت زهرة العمر تطلب أعلى الشهادات؟.

باختصار تغير الدخل فقط، وبقي كل شيء آخر على حاله، فالمطلوب من الناس أن يتكيفوا بمداخيلهم الجديدة مع تكاليف الحياة نفسها، وهي مهمة عسيرة لمن لديه التزامات أسرية مادية واجتماعية. ولعله وسط ضغوطات الحياة المختلفة، تبرز الحاجة إلى الترفيه بشكل أكبر. ولذلك استبشر الناس بهيئة الترفيه، ثم تساءلنا جميعا عن جدواها عندما لم نلمس أثرها، ثم عدنا نستبشر من جديد عندما أعلنت عن روزنامة البرامج والفعاليات لهذا العام. فقد خرجت فيها عن المألوف، واستجلبت فعاليات ترفيهية كنا نحلم بأن نراها يوما داخل بلادنا. إلا أن الفرحة لم تكتمل بالنسبة للكثيرين الذين كانوا بالأصل متشككين، عندما شاهدوا أسعار هذه التذاكر الفلكية!

وعندما نقول أسعارا فلكية للتذاكر فنحن نعني ذلك فعلا، فأنا لا أقارن أسعار العروض المسرحية والحفلات الموسيقية بالأسعار في دول عريقة في السياحة، ولكن دخل الفرد فيها أقل، مثل مصر ولبنان وتركيا، وإنما بدول دخل الفرد فيها أغلى من نظيره في السعودية مثل دبي ولندن ونيويورك! فمع عراقة المسرح الإنجليزي وشهرة «الويست إند» الكبيرة، إلا أن أسعار التذكر لمشاهدة مسرحية من ثلاث ساعات يتراوح بين 50 و1500 ريال. وعندما تكون التذكرة بـ1500 ريال فهذا يعني بأنك ستكون في الصف الأول، وقد تشمل لقاء خلف الكواليس مع الممثلين، وفي بعض أنواع التذاكر فإن ذلك يشمل وجبة العشاء أيضا. كما أن سعر التذكرة يخضع لبعض العوامل مثل وقت شرائها، فكلما اشتريتها في وقت مبكر كانت أرخص، وهناك تخفيضات للطلبة وللمجموعات، وما إلى ذلك. لذلك كان صدمة كبيرة أن نجد أن ولادة الترفيه في بلادنا، والتي جاءت في ظروف اقتصادية صعبة، ليست فقط لم تضع بالحسبان القوة الشرائية لمعظم فئات المجتمع، وإنما شذت حتى عن «سعر السوق».

لا أحد يطالب بأن تكون هذه الفعاليات مجانية، لكن أن تبدأ الأسعار (في حفلة الموسيقار عمر خيرت المرتقبة) من 1000 ريال (أقل فئة) مرورا بـ1700 ريال (الفئة الثانية) وتصل حتى 2200 ريال (أعلى فئة)، فهذا لا شك يشير بوضح إلى أن هذا الترفيه ليس موجها لعامة الناس. في الغالب لا يحضر أحد لوحده حفلة أو مسرحية، مما يعني أن حضور هذه الفعالية الترفيهية لشخصين تكلف ما بين 2000-4500 ريال، وهذه تعادل مرتب موظف حكومي لشهر كامل. العجيب في الموضوع أن تذاكر الحفلة نفسها للفنان نفسه في دار الأوبرا المصرية العريقة تتراوح بين 120 و300 ريال! حسبة بسيطة تخبرك بأنه من الأرخص أن تحجز تذكرة وتسافر ليومين إلى قاهرة المعز وتقيم في غرفة تطل على النيل الجميل وتستمع إلى موسيقى خيرت!

سيردد البعض المقولة المصرية الشهرية: «اللي ممعهوش ما يلزموش!»، وهي مقولة صحيحة فيما توفرت بدائل ترفيهية رخيصة لعامة الناس. بعض المدن لا تتوفر فيها حتى حديقة عامة مجانية متكاملة للاستمتاع بأجواء الطقس اللطيفة هذه الأيام، ولذلك تصبح أي فعالية ترفيهية، سواء كانت للأطفال أو العائلات أو الشباب، حدثا يتطلع إليه الجميع ويرغبون في تجربته حتى لو لم يكن هذا الحفل الموسيقي مثلا من ضمن اهتماماتهم الاعتيادية.

الترفيه الذي يشعر الناس بالعجز يتحول إلى هم وكابوس، والتكلفة المادية والمعنوية لأمراض الحزن والقلق والاكتئاب تفوق بكثير تكاليف هذه الفعاليات الترفيهية، فتكون بذلك -للوطن ولعموم الناس- أكثر ضررا منها نفعا!.