من قوة صياغة تلك الشعارات الجذابة التي تُرفع باسم تمكين المرأة، كدت أحيانا أن أصدق أنها حقيقة. وفي الحقيقة، لا تخرج عن كونها دعاية لفيلم خيالي. لا تستطيع سوى المرأة فقط، أن تكشف فاعلية أو كذب تلك الشعارات.
فمن تجربتي الشخصية بالعمل في ثلاثة قطاعات، تعود إلى ثلاث وزارات مختلفة، كنت جزءا وشاهدة على أطول عملية تمييز رافقتني في تلك الأماكن مع مجموعة من زميلاتي العاملات في مختلف الوظائف، إذ بقينا أسفل القائمة في المناصب القيادية، وفرص التدريب والترقية والبعثات، وغيرها لسنوات طويلة.
في الماضي القريب، كان يؤلمني أن أعترف بذلك، ولكن اليوم لا شيء يؤلم أكثر من التظاهر، حتى حين توضع الموظفة في منصب ممتاز فجأة، يكون هدف المنشأة الاستفادة من مظهرها، أمام وفد أجنبي زائر وليس لكفاءتها، وتُستثنى من ذلك بالطبع من لديها واسطة، فأنتم تعرفون جيدا ماذا تفعل الواسطة.
وحين تبحث عن أساس هذا التمييز، تجده ينبع من الأسلوب المحبط الذي صيغت به بنود ما يسمى باب "تشغيل النساء" في نظام العمل والعمال، والذي يُظهرها في منتهي الضعف والقصور، ليخلق منها إنسانا لا يوثق في قدراته، وكأنها كائن غريب هبط فجأة على الأرض، بقدمين تتدليان من جسده، ومع ذلك، لا يملك أن يمشي أو يتحرك خطوة، لأنهم أقنعوه بأنه لا يستطيع، فاستمر بالزحف.
ومع كل ذلك الاهتمام الكبير الذي أبدته وزارة العمل، عند صياغة الضوابط المكانية لعمل النساء، مثل تعيين حراسة أو نظام أمني على الأقسام النسائية، في حال كانت المنشأة تستقبل جمهورا، كما نصت المادة 158، تجد الوزارة لا تكترث بتاتا إن كانت تلك البيئة التي توفر عليها حراسة، صحية ونظيفة وتطبق مواصفات السلامة، أم يرتع فيها العتة والدود.
ومن خلال سنوات خبرتي الطويلة، لم أشاهد مفتش عمل واحدا يتفقد بيئة العمل، ليتأكد مثلا إن كان صاحب العمل يوفر لهن مقاعد للاستراحة والصلاة، أم مخزنا للصلاة ومخارج الطوارئ للراحة، ومقعدا في دورة مياه، يعلق فوقها لوحة تحمل استراحة السيدات!
ولأن المادة 155 تنص على أنه لا يجوز لصاحب العمل، فصل العاملة أو إنذارها بالفصل خلال إجازة الولادة، تعمد بعض الذكور في أماكن العمل استغلال فترة إجازة الأمومة، بنقل الموظفة من منصبها إلى منصب آخر للاستيلاء على ترقيتها المجدولة، وتغيير تقييمها السنوي في أكثر الفترات صعوبة في حياتها، ليصبح الاستيلاء على حقوق العاملات بروتوكولا يمارس بمنتهى الأريحية، لأن أصحاب العمل لا يحترمون قوانين العمل، ويستطيعون التلاعب بها.
ومع أن المادة 159 نصت على أن كل صاحب عمل لديه أكثر من 50 موظفة عليه تهيئة مكان فيه عدد كاف من المربيات لأبناء العاملات، وليس هذا فقط بل يجوز للوزير أن يلزم صاحب العمل الذي لديه 100 عاملة فأكثر في مدينة واحدة بإنشاء دار للحضانة بنفسه أو بالمشاركة مع آخرين، إلا أن دور الحضانة التي تعني كثيرا للعاملات، لم تخرج للنور أبدا، منذ أن أثير هذا البند في فترة الوزير السابق عادل فقيه، ولم تلزم الوزارة في فترات أخرى، أي قطاع بإنشاء دور حضانة، بل أهملت الأمر تماما لأنه يخص النساء. فأي إستراتيجية تلك التي تدّعي العمل بأنها تتبعها وهي تنشر على موقعها أن تهيئة الظروف لزيادة الإنتاج وتحسين مستويات المعيشة، ورسم السياسات الخاصة بتفتيش العمل، ومراقبة تطبيق نظام العمل، من مهام الوزارة الأساسية، ومع ذلك لا تُطبقها، ولم نلمس لها أثرا على أرض الواقع!.
لا يحترم الإنسان القوانين الهشة التي تُطلق على استحياء، وتوضع على الورق، ليُحسب للوزارة بأنها قدمت شيئا للبشرية، لذلك تتصاعد مخالفات العمل، وتتكرر لغياب المنطقية والمتابعة والجدية، إضافة إلى تجاهل مشكلات المرأة، وتركها دون أنظمة محكمة تحميها من التنمر.
والتمييز في عمل المرأة، أمر يمارسه معظم الرؤساء الذكور، من وراء شعارات واهية يتشدقون بها، بينما عقليتهم ما زالت تؤمن، بأن عمل المرأة ترف وليس ضرورة معيشية تعيل بواسطتها أسرتها أو نفسها. وحين تمارس أنظمة عمل النساء التمييز، من الطبيعي أن يتمدد ذلك إلى بقية القطاعات، حتي البنوك التي لا تعترف بهوية الأم، أو بطاقتها العائلية التي تضم أبناءها، لتفتح حسابا لهم مثلا، بل تشترط أنظمتها حضور الأب وتوقيعه، حتى لو كانت هي من سيُقتطع من راتبها لأبنائها، وحين تخاطب مسؤولا في بنك، يدّعي بأن هذه هي الأنظمة، بدلا من أن يعترف بأنهم لا يملكون الخروج عن نمطية الموروث الاجتماعي المترهل، برفع اقتراح أو تعديل الشروط، لتتناسب مع فترة التحول الوطني، بالاعتراف نظاميا بأحقية الأم لأنها أحد الوالدين.
خلق التوازن والعدالة الاجتماعية، في أماكن العمل والأماكن العامة، ينبغي أن يبدأ بالقضاء على التمييز القابع في العقليات المتحجرة التي تدّعي التحضر والورع، ثم يوارون عنصريتهم خلف شعارات واهية من باب الوجاهة، ولا يعرف حجم سلسلة تلك المعاناة إلا النساء فقط، وإن لم تكن إحدى تلك النساء، سيكون أحد أولئك الذكور، أو رجلا والرجال قليل.