تتشكل الخطابات اللغوية أو الثقافية بشكل عام في المجالات العامة أو في المجالات الخاصة، أو المجال البصري كالفضائيات أو المجال الإلكتروني كوسائل التواصل من خلال بث العديد من الرؤى والأفكار والتصورات عن الحياة والواقع وعن الذات والآخر، وهي خطابات في مجملها لا تعدو أن تتساوق مع الأحداث الجارية في العالم اليوم، بحيث تصيغ عددا من المعارف الفكرية منذ الطفولة حتى الشيخوخة وتقوم على سياق التأثير والتأثر، التأثير الذي يمكن أن يحدثه خطاب تجاه خطاب آخر أو نصوص تجاه نصوص أخرى سواء أكانت نصوصاً أدبية أو علمية أو فكرية.

وعلى الرغم من تنوع هذه الخطابات إلا أنها عادة ما تنساق إلى الوجداني أكثر من الصيغ العقلانية التي تتأسس على معطيات محددة حتى تلك التي تحاول أن تصيغ عباراتها بشكل علمي، إلا أنه يمكن أن تكون المؤثرات غير العلمية حاضرة في الذهنية التي تشتغل عليها بحيث يتحول التفكير من العلمية إلى اللاعلمية رغم تصور المتخاطب بها بأنها علمية خالصة، وهذا يتضح أكثر في دخول الأيديولوجيا على المسألة أو دخول المجال الديني في المسائل العلمية.

ويمكن تصور الإعجاز العلمي مثلا كأحد هذه الخطابات التي تحاول أن تجمع بين العلمية والدينية رغم اختلاف المجالين، حيث يعتمد المجال العلمي على اللغة العلمية في حين تعتمد اللغة الدينية على التأثير الروحي، وهنا يمكن القول: إن خطاب العلم يعتمد على الشك واللا يقين، في حين أن خطاب الدين يعتمد على الإيمان، وهذا أمر بديهي في الأوساط العلمية المعتبرة، وكذلك تعتمد الخطابات الأيديولوجية مثلاً في تسخير العلم لها كما تفعل بعض الدول الشمولية في تسخير العمل لصالح أفكارها ومطاردة العلماء الذين لا يتجاوبون مع الفكرة العامة للدولة، لأن العلم بطبيعته نقدي شكي في حين غيره يبقى تسليمي، وهذا مبدأ يناقض التفكير العلمي أو النقدي بشكل عام.

التفكير النقدي عادة يقوم على جمع حجج عديدة ومساءلتها بمعنى إخضاعها إلى المراجعة واختبارها فكريا وتجريبياً وتفكيك مسلماتها، فإن ثبتت مع المراجعة فهي جديرة بالبقاء، وإلا سوف تتهاوى ويتم صرف النظر عنها إلى غيرها من الحجج الأخرى، وفي مقابل ذلك يأتي التفكير الخطابي كتفكير هو الآخر يدفع بعدد من الحجج  أو يتم إخضاعها للمراجعة والنقد، وإنما هي حجج مسلم بها بحيث لا يمكن نقدها أو مراجعتها. لا يمكن لأحد أن يعترض على خطيب الجمعة من المصلين مثلا في تقديمه الحجج العديدة في نقد طائفة محددة لأن الحجج التي يسوقها عادة حجج إيمانية حتى لدى المصلين لذلك تجد قبولا لديهم، وحتى لو لم تجد ذلك القبول فإن الخطيب على المنبر يخضع إلى حصانة دينية يجعل غالب المصلين أقرب إلى الخنوع الفكري والوجداني _ إذا صح التعبير _ إلى ما يقوله الخطيب، وكذلك يفعل السياسي في جر الشعوب إلى خوض مغامراته السياسية والحجج التي يقدمها السياسي ضد سياسة أخرى عادة لا تخضع للمراجعة، وإنما التنفيذ، إلا في بعض الدول الديمقراطية التي تجاوزه هذه الحالة، وأصبح كلام الرئيس ليس خطاباً مؤثراً إلا في إطار الحزب الذي يترأسه.

الخطيب السياسي والخطيب الديني كلاهما يقدمان عدداً من الحجج في تبرير الموقف الذي يتم اتخاذه لكنها تبريرات وحجج لا تصمد مع النقد أو المساءلة المعرفية الناقدة، إذ يكفي أن تسوق حججاً متسامحة تخالف معتقد الخطيب الديني في موقفه تجاه الطائفة الأخرى ليقوم بحرف مسار الحجج إلى طرق اتهامية أو طرق هجومية، وكذلك يفعل السياسي في موقفه من الحجج الأخرى بوصفها حجج المعارضة التي تريد هدم الدولة كما والاتهام بالخيانة والمؤامرة وغيرها من الخطابات المعروفة في التصدي لأي حجة مخالفة لحجة السياسي.

التفكير النقدي هو تفكير يقدم حججا للإقناع وعادة هي حجج قد خضعت للمراجعة والمساءلة والتفكير ضدها حتى صمدت علمياً، في حين أن التفكير الخطابي يقدم حججا تتهاوى مع الضربات النقدية تجاهها. سأسوق هنا مثالا واضحا في التفكير النقدي والتفكير الخطابي. المثال يقول: إن بلدة من البلدان حصل فيها زلزال أو فيضان أو أي كارثة طبيعية أخرى. التفكير الخطابي سيقوم بفرضية أن ذلك من الذنوب والمعاصي أو بسبب الخطيئة الإنسانية وهذا تفكير عام ولا يخص دينا محددا إذ نجده لدى غالب خطباء الدين في غالب الأديان، ويقدم الخطيب حججه والوقائع التي تؤكد ذلك من التاريخ أو من القصص الدينية أو غيرها، وفي تقديم حجة مضادة بأنها وقعت الكارثة على مؤمنين مثلا فإنه سوف يتحول من حجج العقوبة إلى حجج ابتلاء، في حين يقدم التفكير النقدي حججه العلمية سواء في موجة وتيار هوائي قاد إلى الفيضان أو ضعف القشرة الخارجية للأرض في كارثة الزلازل، وهذه حجج علمية عادة لا يهمها أكانت البلدة مؤمنة أو غير ذلك، إذ يبقى الحدث حياديا تجاه الإنسان ويتم تفسيره بالكيفية التي كانت عليها وليست الغائية منها.

في سياقاتنا المعرفية وحواراتنا يغلب التفكير الخطابي على التفكير النقدي. يغلب الخطاب السياسي على العقلاني، ويغلب الخطاب الديني على العلمي ويغلب التفكير الأيديولوجي على التفكير المنهجي حتى في الأوساط الأكاديمية، وهي التي كان من المفترض أنها أوساط علمية بحتة تزيح كل ما هو غير خاضع للمراجعة والنقد والفحص، وتبتعد كذلك عن المواقف الأيديولوجية أو الادعاءات التي لا تصمد مع الوقت، لكن المفروض شيء والواقع المعرفي لدينا شيء آخر.