قبل أن ندلف لعشوائية السعودة في مجال الاتصالات، نتطرق أولا للسيناريو الصحيح الذي يُفترض أنه سبق عملية السعودة.
بداية كان على الجهات المختصة بالسعودة القيام بدراسة ميدانية لحصر احتياج كل مدينة بشكل تقريبي لعدد السعوديين الذين سوف يستوعبهم السوق، ثم بعد ذلك يتم الإعلان عن طلب التوظيف وعلى ضوئه ومن خلال معايير معينة يقيم كل متسابق من ناحية الجدية، والقدرة على التعلم، وممارسة العمل، بعد الغربلة يلتحق هؤلاء في معاهد خاصة للتدريب على صيانة وبرمجة الجوالات، والتسويق، وخلال مدة التدريب التي لا يجب أن تقل عن عام يكتسبون خبرات متنوعة، كمهارة التعامل مع الجمهور، ومعرفة أنواع الجوالات وجودتها ومميزاتها، وما يتعلق بها من إكسسوارات ونحوها، وأيضا يتلقون معلومات حول كيفية اختيار المحل التجاري الذي يحقق لهم وجود عملاء، ويؤخذون بجولات ميدانية لأماكن العمل. بعد هذا التدريب المكثف تتاح لهم فرصة العمل عام كامل على الأقل في متاجر الاتصالات مع الوافدين، تحت إشراف جهات السعودة ومعهد التدريب؛ لتقييم أداء كل فرد، مع ملاحظة أنني قلت معهد خاص معتبر عالميا ولم أقل كلية تقنية؛ لأن تجارب الأعوام السابقة لا تشفع لها بالقيام بهذا الدور، على أي حال بعد عام التدريب وعام الممارسة العملية، يتم حظر عمل الوافدين بهذا المجال، ويعطى الشاب السعودي حرية العمل ولا يترك للظروف والعقبات وحيدا بل يتابع وتحل مشاكله، ويُسهل طريقه، فمثلا أول عام يُدفع عنه إيجار المحل، والعام الذي يليه يدعم بنصف المبلغ، وهكذا حتى يتمكن، ويكتسب الخبرة ويعتمد على نفسه، وبهذه الطريقة نُشكل أرضية صلبة يقف عليها المواطن، ويُساعد من يلحق به من أقرانه.
عقب هذا التطواف السريع على ما يفترض أن يحدث، نعود للواقع الذي يشبه ما سبقه من مبادرات عبارة عن قرار سريع وحماسي، تتناقله وسائل الإعلام وضحيته الشاب الذي يبحث عن لقمة العيش، على سبيل المثال للحصر برنامج سعودة محلات الذهب، الذي ذهب ولم يعد، وبرنامج سعودة سوق الخضار، الذي حضر ثم غاب. ما حدث في سعودة سوق الاتصالات هو قرار تبعه تنفيذ بطريقة جعلت الشاب الذي التحق بالعمل
في ورطة، وعميله الذي يأتي إليه في ورطة أخرى، فالشاب السعودي يواجه استغلال العقاريين بدفع مبالغ لا تتناسب مع دخل تاجر مبتدئ، وحتى الموقع المناسب لا يجيد اختياره، إذ في إحدى المدن بنى أحد العقاريين محلات أسماها “مول الجوالات” وسط حي قديم لا تخدمه شوارع ولا مواقف، ومع ذلك استُؤجرت جميع محلاته، فوقع الشباب لقلة خبرتهم في فخ العقاري.
كما أن الشباب يواجهون مشكلة في الصيانة لقلة خبرتهم، وحتى أنواع الأجهزة وطريقة عملها ومميزاتها يجهلون فيها الكثير، وزد على ذلك معضلة الموردين الذين لا يثقون بالسعودي كما كانوا من قبل يفعلون مع الوافد، التسهيلات، وهوامش الربح المرتفعة، ومهلة سداد فاتورة البضاعة لما بعد البيع، كل هذه المميزات تلاشت مع أول يوم بدأ فيه عمل السعودي.
في نهاية المطاف هذه نتيجة طبيعية لعمل افتقد الخطوات السليمة، التي اقتصرت على القرار، ومبلغ مالي استفاد منه أرباب العقار فقط، وتدريب أسبوع أو أسبوعين لا يفيد وليس له أثر على أرض الواقع، أما مدة عمل البعض مع الوافدين بضعة أشهر فليس لها قيمة بذلك الأسلوب؛ لأن الوافد لن ولم يدرب من سوف يحل محله، وأظن أن الحسنة الجلية في موضوع سعودة الاتصالات هي أن السعودي أثبت للجميع أنه يود أن يعمل، بل ويحاول شق طريقه مهما واجه من صعاب، ومن أفراد يحاولون إجهاض سعودة هذا السوق الذي يدر أرباحا كبيرة إذا فهم الشخص كيفية الاستفادة منه.
ختاماً، هذه ليست دعوة لجعل الشباب يستسلم ويترك العمل، بل هي مجرد تحليل لواقع عل الجهات المختصة تقف بجانب السعودي بشكل أفضل؛ كي يستفيد من خيرات وطنه، وكي تستمر السعودة في مجالات أخرى، ولا تتعثر مثل سابقاتها، فرؤية 2030 أهم عناصرها المواطن المؤهل؛ الذي ينتج ويرفع اقتصاد وطنه، وثقتنا بشبابنا كبيرة، ونأمل أن يتجاوز الشاب السعودي العقبات الحالية، وحينما يصبح مؤهلا وقادرا، ومكتسبا للخبرة، سوف يختفي من يمارس البيع والصيانة خفية، وسوف يجبر المورد على التعامل معه بشكل يكفل له حقوقه، والزمن كفيل بتغيير كثير من المعادلات، وفي آخر سطر نقول للمسؤول: ليس المهم رقم السعودة، ما يهم حقا هو فعاليتها في خلق جيل منتج.