نسمع كثيرا في سياق المدح والثناء أن فلانا من الناس يتصرف بعفوية.
وصف عفوية هنا يعني احتمالات منها: المباشرة وعدم التكلّف، البساطة، الصدق وعدم التصنّع. سؤالي الأساس في هذا المقال هو: هل العفوية قيمة أخلاقية؟ بمعنى هل كون الإنسان يتصرف بعفوية أمر يستحق الإشادة الأخلاقية؟ هذا السؤال يعني التفكير في إمكان ضم العفوية لقيم أخلاقية مثل الصدق والوفاء والرحمة والأمانة والتواضع...الخ.
لكي نفحص القيمة الأخلاقية لمعنى ما، لا بد من التفكير في أثر هذا المعنى على الآخر. الآخر هنا هو الطرف المقابل للذات في العلاقة الأخلاقية. يكون السؤال إذن: ماذا يعني (للآخر) أن تكون الذات عفوية؟ الجواب الواضح هو أن تكون الذات كما هي. أي أن تظهر على حقيقتها دون تصنّع. لاحظ هنا أننا لم نحصل حتى الآن على وصف لمضمون سلوك الذات تجاه الآخر. أعني أن الذات العفوية يمكن أن تكون مؤذية للآخر ويمكن أن تحترم الآخر. العفوية هنا لا تعطينا تحديداً لأي توجه. العفوية تعني إخراج ما هو موجود في الذات ولا نعلم ما هو موجود أصلاً في هذا الذات. نلاحظ هنا أن الوقحين من البشر هم عفويون كذلك. الإنسان الوقح يلقي بالكلام على عواهنه أمام الآخرين مما يتسبب في أذاهم.
في المقابل نجد أن أكثر ما يجذبنا للعفويين هو الصراحة وعدم التزييف. العفوي سواء أكان وقحا أو مؤدبا إنسان واضح يجعل التعامل معه مريحا لدرجة معينة. لكن لنتذكر أن كثيراً من الشخصيات المؤذية كانت مباشرة وصريحة وصادقة. خذ على سبيل المثال ديكتاتورا مثل هتلر أو ستالين. لم يكن أي منهم حريصا جداً على تلطيف كلامه أو إخفاء حقيقة ما يضمر. كانت أفكارهما المؤذية لكثير من البشر تعلن وتذاع بدرجة عالية من الصراحة والمباشرة. نلاحظ هنا شكلين مهمين من أشكال الصدق: الصدق الأول وهو نقل الوقائع الموضوعية بمعنى أن أنقل لك بدقة المعلومات التي أعرفها عن الواقع ولا أزيف عليك. الشكل الثاني هو الصدق في القضايا الذاتية أي فيما يخصني من مشاعر وأفكار ذاتية لي عليها تحكم وسيطرة. الشكل الأول يبدو فيه النقل المباشر الدقيق للواقع ضرورياً وسيكون غير ذلك تزييفا وخداعا. في المقابل فإن الشكل الثاني من الصدق خاضع أصلا للإدارة الذاتية وبالتالي يمكن تعديله بناء على أثره على الآخرين. خذ على سبيل المثال الأفكار الخاصة بكيفية التعامل مع الآخرين: الخيار الأول أن ننطلق بالتعبير عن أفكارنا بغض النظر عن أثرها على الآخرين وهو عادة ما نعنيه بالعفوية. الخيار الأول هو أن نكون في علاقة ديناميكية مع الآخرين يتم فيها باستمرار تغذية سلوكنا معهم بنتائج تأثيره عليهم، وبالتالي يتم تعديله بناء على طبيعة هذه الآثار.
الحالة الثانية تنخفض فيها العفوية لصالح رهافة إحساسنا بمشاعر الآخرين وأثر سلوكنا عليهم. أفكارنا ومشاعرنا ليستا واقعا موضوعيا يفترض علينا التعبير عنه كما هو، بقدر ما هما من الخبرات الحية التي تتشكل في كل لحظة بظروف تعاملنا مع الآخر. الأخلاق تذكرنا دائما بأن لا ننسى الآخر وننغلق على ذواتنا. العفوية تبدو لي انغلاقا على الذات بدرجة معينة. كثير من القضايا الأخلاقية تكون أوضح حين نفكّر فيها في مجال الأطفال والتربية المبكرة. جزء أساس من أي تربية أخلاقية أن نرفع حساسية الطفل لأثر سلوكه على الآخرين. نقوم بإجراءات كثيرة تشمل الثواب والعقاب من أجل أن نجعل سلوكه مع الآخرين أكثر تهذيبا وتقديرا للمشاعر. الطفل الغاية هنا هو طفل لديه القدرة على مراقبة سلوكه حسب النتائج الآنية التي تنتج عن هذا السلوك. مثلا أن يتوقف عن المزاح حين يلاحظ أن مزاحه بدأ يؤذي الآخرين، أن يبادر للمساعدة والتعامل العاطفي الحنون مع صديقه الذي يشعر بالألم وهكذا.
من التحليل أعلاه، يمكن القول بأن الأخلاق تدفعنا باتجاه رفع حساسيتنا تجاه آثار أفعالنا تجاه الآخرين. هذا يعني أن ندير سلوكنا مع الأخذ بعين الاعتبار كيف سيؤثر على الآخرين. هذا لا يعني طبعا أن نتصرف كما يريد الآخرون بالكامل بقدر ما يعني أن يكون خيارنا الأول أن نقوم بما نقوم به بطريقة مريحة للآخرين. أي أن يكون أذاهم هدفا نسعى لتجنبه قدر الإمكان. العفوية فعلا تعطينا شيئا من الطمأنينة والارتياح في التعامل لكنها مع الوقت تصبح قاصرة عن تلبية الطبيعة التفاعلية لعلاقاتنا مع الآخرين. إذا كانت العفوية تعني أن تتصرف كما أنت فإن الاخلاق تدفعنا أن نتصرف كما نحن -مع- الآخرين وفي مستوى أعمق أن نتصرف كما نحن - من - أجل- الآخرين.
بناء على ما تقدم لا تظهر العفوية كقيمة أخلاقية بقدر ما تظهر كسمة لسلوك قد يكون أخلاقيا وقد لا يكون. العفوية لا تعطينا وصفا لطبيعة أثر سلوكنا على الآخرين، وهذه هو المعيار الأخلاقي الجوهري. الإنسان العفوي يقترب من الأخلاق قدر اقترابه مع الوعي بأثر وجوده مع الآخرين ويبتعد عنها بقدر اكتفائه بذاته وانغلاقه عليها. هنا يكون السؤال: هل العفوية كذلك سمة للأنانية؟ هل الأناني عفوي في انغلاقه على ذاته واستعماله للآخرين؟