عادة لا أحب التعميم في حديثي لأنه يكون غير عادل، ولأن هناك أمثلة جيدة دائما.
لكن لنغير السؤال إلى: لماذا دور سفاراتنا في الخارج لا يتناسب مع مكانة وثقل المملكة في المجتمع الدولي؟، ولماذا شريحة ليست قليلة من المواطنين غير راضين عن مستوى خدمات السفارات؟.
الإجابة عن تساؤلاتي تنقسم إلى شقين: الأول، إداري وهو يتعلق بهيكلية وإدارة السفارات وطريقة عملها، ولنبدأ برأس الهيكل الإداري أو رئيس البعثة، هل تم تعيينه تشريفا أم تكليفا؟، وهل كان تعيينه مكافأة لأعماله السابقة أم أنه من خلفية إدارية أو دبلوماسية؟ ولكن الأهم كيف ينظر هو إلى المنصب؟!، هل هو مجرد منصب شرفي أم هو تحدٍ جديد يستعمل فيه كل علومه وخبراته لإنجاحه؟
لو طبقنا معايير وأدوار منتسبرغ العشرة للمدير أو للقائد، لوجدنا أن كثيرا منهم لا يطبقها، أو بعضهم لا يعرف عنها، في فئاتها الثلاث سواء المعلوماتية أو الشخصية أو حتى القرارية، ولا أدعي أني قابلت كل السفراء لكن كثيرا ممن قابلت لا يملكون كثيرا من هذه الصفات والأدوار وأستثني اثنين.
السؤال الأهم: هل يريد رئيس البعثة أن يكون قائدا أم مديرا؟ والفرق شاسع بينهما، ويا ليت يصبح قائدا لما في ذلك من تأثير على عمل كل السفارة وفعاليتها.
البناء الإداري للسفارة، الخطة الإستراتيجية، وخطة العمل وخطة التطبيق أو حتى خطة التشغيل اليومي، هل هي مواكبة للعصر والطرق الحديثة في الإدارة؟ أم هي مجرد اجتهادات من هنا وهناك؟.
قد يقول قائل: إن عمل السفارات يعتمد على الدبلوماسية والسرية فصعب إدراك ذلك، وهذا صحيح جزئيا، لكن لتقييم أي عمل هناك عدة طرق لوضع تصور عن كفاءة عمل الإدارات دون حتى معرفة التفاصيل، وهو ما يسمى دراسة "النمط والاتجاه"، فمهما كانت الأعمال مختلفة أو حتى سرية، فإنها ستصب في بوتقة واحدة إذا كانت مبنية على خطة علمية وإستراتيجيات، أيضا هناك دراسة المحصلة والنتائج، وللأسف لا دراسة النمط ولا دراسة النتائج تشي بوجود عمل فعّال متكامل.
إن أبسط أعمال السفارة ومهماتها لدولة بمكانة وإمكانات المملكة العربية السعودية، يجب أن تطبق أساسيات الإدارة الحديثة وإدارة المشاريع، وليست اجتهادات شخصية أو مزاجية، فيجب أن تكون السفارات نظاما مؤسساتيا يعمل بزخم مستمر.
البعض يقول: إن العمل الدبلوماسي هو علم إنساني يختلف بالتطبيق عن أساسيات الإدارة والمشاريع، وأتفق جزئيا مع ذلك لكن حتى أساسيات السياسية الواقعية أو ما يسمى "ريل بولتكس" لا نراها تطبق، وقد قابلنا وعاشرنا عدة سفارات وسفراء حول العالم.
نحن لا نطمح إلى مناقشة نظريات العلوم السياسية التي مكانها الجامعات والأكاديميات، ولكن نريد تفعيل التطبيق للسياسة الواقعية. وحتى في وجود قرارات وخطط سليمة، إن لم تكن آلية التطبيق سليمة فوجود الخطط كعدمه.
هل جميع موظفي السفارات مدربون لاستخدام المنهج العلمي في تحليل وحل المشكلات وتحقيق الأهداف؟ أشك في ذلك، والمنظومة كالأوركسترا إذا شذ أي فرد فيها أو لم يعرف دوره، فذلك سيخرب عمل المجموعة.
البعض يضع اللوم على الخارجية وعدم الرد السريع على السفارات التي هي منفذة لتوجيهات الخارجية، وأنا لا أتفق مع ذلك، رأينا عددا من الأمثلة على بعض الترّهات والسقطات الغبية من بعض السياسيين الغربيين يمكن الرد عليها بسهولة، دون استشارات مثل أن هناك مساواة في المملكة بين راتب الرجل والمرأة، وأيضا نحن لا نملك لاجئين سوريين في السعودية، لأننا نسميهم زائرين وضيوفا، وهم بمئات الآلاف، وكذلك السعودية هي من أكرم دول العالم في المساعدات الإنسانية مقارنة بالدخل القومي.
على السفارة أن تعمل بالتوجهات العامة إذا تأخرت التوجيهات، أما طريقة "لا تعمل شيئا حتى لا تخطئ ولا تلام وتبقى على الكرسي"، فقد عفا عليها الزمن.
نريد سفارات تحرث الأرض وشعلة نشاط في التتبع والمحافظة على مصالح وسمعة البلد، لا نريد أن تتكرر الديباجة الشهيرة في الإعلام الغربي بأنه قمنا بالاتصال بالسفارة ولم يصدر أي تعليق منهم أو رد، فليس لدينا شيء نخفيه.
نريد سفارات يكون مسؤولوها مشاركين في النشاطات الاجتماعية والإعلامية، وطبعا السياسية في البلد المضيف، بدل أن يأتي المسؤول في السفارة ويغادر ولم يسمع به أحد.
أتمنى أن يأخذ الدبلوماسيون السعوديون دروسا من خطيبهم المفوه وقائدهم النشيط كالشعلة، عادل الجبير، ويأخذوا سيرته العصامية من موظف في سفارة واشنطن إلى قمة هرم الخارجية، نحتاج إلى عدة نسخ من عادل الجبير، على أن تكون كل نسخة مختلفة وفريدة.
الشق الثاني: هو علاقة المواطن بالسفارة، فللأسف العلاقة ليست صحية تماما، لا شك أنها أفضل كثيرا الآن مما كانت عليه قبل سنوات، إذ كانت السفارة تنظر إلى المواطن نظرة غير مقبولة، ولكن توجيهات القيادة العليا الملك عبدالله "رحمه الله"، والملك سلمان، حسّنت الوضع بشكل كبير، ولاحظنا الفرق خصوصا من عاش خارج المملكة لسنوات.
على المواطن أن يحسّ أن السفارة هي بيته الأول في الخارج، ويجب أن يعرف موظفو السفارة أنهم يعملون من أجل المواطن، ليس من المقبول مثلا أن تكون السفارة مكان تهديد للمواطن من بعض الجهات الأجنبية إذا حصلت مشكلة، أو أن تظهر جفاء للمواطن أمام السلطات الأجنبية حتى لا تظن هذه الجهات أن المواطن جدار قصير، وأيضا من غير المنطقي تطبيق قوانين البلد المضيف وقوانين المملكة في الوقت نفسه على المواطن، رغم وجود تعارض بينهما، فذلك سيكبل المواطن في شبكة قوانين.
كثير من مشاكل المواطنين يمكن حلها بالوجه الحسن والعلاقات، إن فن تكوين علاقات مع الجهات ذات الصلة في البلد المضيف، من أسس الدبلوماسية ويدل على الاحترافية والإبداع، أما جعل مساعدة السعوديين كعمل روتيني ممل فلن ينجح كثيرا، والأفضل الدوام بأرشيف الوزارة، فساعات العمل محددة ومعروفة أما الدبلوماسية فهي شغف وعلم وعلاقات، وربما تحتاج الساعات الطوال للوصول إلى النتائج الإيجابية، وفي الوقت نفسه ليس من العدل أن يعامل الموظف المبدع في السفارة والشغوف بعمله بالتساوي مع موظف يأخذ العمل كـ"برستيج" وسلطة.
وفي الختام، نصيحتي لكل دبلوماسي، التواضع ثم التواضع، فهو يجبر كثيرا من العيوب، وخلال عشرات السنين رأينا بعضا من الدبلوماسيين الذين كانوا يتباهون بكراسيهم وبعد التقاعد زالت الهالة، ونتعلم درسا من القيادة العليا بقيادة سيدي الملك سلمان، وتواضعها للصغير والكبير، وأنا متأكد أنه لن يخفى عنها سلوك أي ممثل لها بالخارج، ونحن في عصر الحزم والعزم والتطوير.