الحياة لا تكتب لنا وحدنا نحن الشباب، لكن ما يظهر على السطح الآن من خلال مظاهر الحياة، أننا وحدنا من يتسيد المشهد، من دون الالتفات إلى فئة كبار السن، وكأننا من دون أن نعمد لذلك الأمر نلغيهم تماما من حياتنا، فكل شيء يدور في المجتمع، يدور حول الشباب والجيل الجديد، لكننا لم نبصر شيئا حتى الآن يعزز من أهمية هؤلاء الذين كافحوا في الحياة، وأفنوا سنوات عمرهم الطويلة في بناء هذا الوطن، وكأنهم لا يستحقون الاهتمام من الإعلام أو حتى الانتباه إلى تكوين مصادرهم المالية، ومساعدتهم على العيش بحياة كريمة، والأهم من ذلك أننا حتى لم نفكر بمشاعرهم النفسية، والتي يعرف الجميع أن التغيرات الفسيولوجية لها تأثير خطير ومؤثر، ما أن يتجاوز المرء أعتاب الستين عاما، فكل ما نقوم به الآن للشباب، وكل ما نقدمه من رؤى مستقبلية متعلقة بالشباب، هيئة الترفيه أيضا لا أظنها وضعت خططا للترفيه عن كبار السن، وكأننا ننتظر منهم فقط أن يتجهزوا للموت والانتقال الأبدي إلى الآخرة!
أمر موجع وبليد أن نتخلى عن فكرة أن في المجتمع من هم أحق بهذا الاهتمام، أن ينصب اهتمامنا على رعايتهم، وعلى إيجاد فرص للخروج من حفر المجهول والاكتئاب الذي يلازم العديد منهم، وكما تقوم اللجان الحكومية والشركات الخاصة والجمعيات بالاهتمام والسعي من أجل تمكين وتطوير الشباب ودعمهم، وفتح الفرص من أجل مشاركتهم في بناء الوطن كما فعل من سبقهم، نغمض أعيننا عن أن هناك أيضا فئة من المجتمع تحتاج منا إلى وقفة حقيقية لبذل الجهود الكبيرة تجاههم، على الأخص أن العديد من كبار السن ليسوا متعلمين بما يكفي، كما وأن معظمهم قد تركوا جزءا من ثرواتهم المالية، لبناء حياة جيدة لأبنائهم في ظل ارتفاع الأسعار بشكل عام، لذا، فهم لا يملكون موارد مالية تكفيهم لقضاء أوقات جميلة للسفر والسياحة في البلاد الأوروبية أو حتى الدول المسلمة، والاستمتاع بالطقس والطبيعة.. إنهم محرومون جدا، حتى إن معظم كبار السن يظلون طيلة الأيام، وتصل أحيانا إلى أسابيع طويلة، قابعين في منازلهم، لا يخرجون إلا إذا كانت لديهم حاجة للخروج.
للأسف لا أملك إحصائيات دقيقة لعدد الأرامل في السعودية والمطلقات في سن متقدمة، إلى جانب بالتأكيد الرجال الأرامل الذين فقدوا زوجاتهم، أو من يعيش في بيت بمفرده مع خادمة ترعاه، نظرا لانشغال أبنائه، وعدم رغبته في السكن مع واحد من أبنائه، فيظل الأب يعيش في وحدة لا متناهية، من البيت إلى المسجد، وهكذا تدور حياته، وعلى الأخص حينما تكون قبيلته أو عشيرته تسكن في قرية أو ضاحية بعيدة عن مقر سكنه، بينما هو قد اعتاد على العيش في مدينته ولا يود مغادرتها، لكونها تحمل تفاصيل عديدة لمشوار حياته، هنا لابد أن تكون هناك لجان تقوم على دراسة تطويرية لبحث حالات فئة كبار السن، سواء من خلال وضع أولوية لرعايتهم الصحية، أو البحث عن هيئة ترفيهية مخصصة لهم، طبعا على أن تكون هذه الهيئة لا تفكر في النماذج القديمة التي لا تجدي نفعا، كاقتصار الترفيه على فعاليات نقش الحناء للنساء، والعرضة الشعبية للرجال، في هذا الوقت تحديدا الوعي انتقل من المحدود إلى اللامحدود، وعلينا أن نعامل كبار السن بمسؤولية أكثر عمقا.
قبل أيام جاءت إلى زيارتنا إحدى القريبات، وبدأت تتحدث عن مركز تحفيظ القرآن الذي التحقت به منذ عام، وقالت الكثير الكثير عن المركز، مشيدة بالفضائل التي نالتها فور التحاقها، فتقول إنني أجد في مركز تحفيظ القرآن سلوتي بعد انشغال أبنائي وانتقالهم إلى المدينة، وزيارتهم البعيدة لي في القرية، كنت أصيخ السمع إلى القريبة وهي تتحدث، وكنت أراقب كلماتها وطريقة تعاطيها مع الحدث الذي غيّر حياتها، وهي المرأة التي شارفت على أبواب السبعين، وللمرة الأولى أشعر بأن هذه القريبة قد عادت إلى الحياة من جديد.
لذا، لا أعلم لماذا نتعاطى مع كبار السن وكأن عليهم أن يكونوا بعيدين عن الولوج في صخب الحياة، وأنه يتوجب عليهم أن يكونوا في عزلة حتى الموت، وأن يتجردوا من الرغبة في العيش أو الحلم أو تغيير طريقة تفاعلهم مع بعض الأمور، وكما قال أنطونيو تابوكي وما تاريخ الإنسانية وما الرجال وما النساء بلا الرغبة؟ لقد أوجدنا حضارات بأكملها بسبب رغباتنا: الرغبة في المعرفة، في الاكتشاف، في الفعل، الإنسان كائن رغبوي في المقام الأول.
عدم إلقاء الضوء على مشاكل كبار السن يقلقني جدا، إننا نركض سريعا، ونلهث باستماتة تجاه التكنولوجيا، وخلف أي شيء يمكن له أن يهبنا بعضا من الإشباع، سواء بصري أو سمعي أو فكري، لكننا لم نتمكن حتى الآن من إيجاد أي حلول لهذه الفئة المغلوبة على أمرها.
وبما أنني جلست مع نساء فقدن أزواجهن وترملن بعد عقود طويلة من العيش تحت ظل رجل، وتلمست حاجتهن للبقاء أحياء، ورغبتهن في وجود مكان ثابت في الحي، يتزودن منه العلم والمعرفة أكثر في الدين، فأنا أطالب المسؤولين بأن يسمحوا باستغلال المساجد التي وضعت قسما بها للنساء، لأن تكون هناك ندوة أسبوعية لتوعية النساء من الحضور ببعض المعلومات الدينية، أو الطبية أو الاجتماعية، ومن خلال هذه الندوات يتم التقاء النساء بعضهن مع بعض، ويصبح لديهن مجتمع آخر خاص بهن، وأيضا الاستفادة من المسجد، بدلا من استخدام المكان فقط في شهر رمضان.
كبار السن أمانة في أعناقنا، وعلينا أن نبذل قصارى جهدنا لكي نجعلهم يعيشون حياة كريمة هانئة.