يحيلنا هذا المقال على الروايتين الشهيرتين: "حفلة التيس" للروائي اللاتيني: ماريو باراغاس يوسا، و"حفلة التفاهة" للفرنسي: ميلان كونديرا، وعلى الرغم من اختلاف الأحداث في الروايتين اختلافا جذريا، إلا أن حالة الواقع المضحك المبكي يمكن أن تجمع بينهما، إذ يمكن أن تتحول حفلة التيس إلى حفلة تفاهة كبرى يقودها عدد من النخب في المجتمع بمختلف توجهاتهم وأماكنهم الحساسة، ومن الممكن أن تصبح هذه النخب أشبه برواية حفلة التيس في رواية يوسا، إذ كان التيس جنرالا لُقب بذلك لجبروته الذي جعل الجميع يشاركونه في حفلته الكبرى، وهذا يعني أن النخب الثقافية والدينية والسياسية كلها تشارك في هذه الحفلة، لتصنع واقعا تافها هو أشبه بما يحصل في رواية كونديرا: حفلة التفاهة، ويكفي أن تمر على بعض مواقع التواصل الاجتماعي، لتعلم كيف تتحول كثير من تلك النخب إلى حالات ثقافية تافهة، لا تتناسب مع الحجم الثقافي أو الفكري أو الديني، وما تحظى به من جماهيرية مؤثرة على السياقات الاجتماعية.

كتب الناقد محمد العباس قبل أشهر مقالا بعنوان: "حفلة التفاهة الكونية"، تعرض فيه إلى الحالة الثقافية في وسائل الإعلام الحديثة، التي تهتم بالتافه والسريع، على حساب ما هو أصيل ونافع لحساب القشور والمظاهر، وقريبا من ذلك أرى أن الأمر يتعدى حفلة تفاهة إلى حفلة تيس كبرى، حيث الجميع منخرط فيما يمكن أن يمليه بعض النخب حتى على المستوى الإداري البسيط. رواية "حفلة التيس" تطرح فكرة مهمة حول الحالة الإنسانية في المجتمعات الطوعية، التي تؤمن أن هناك من يقرر ويفكر بدلا عنها من خلال التأكيد على الثقافة الأبوية، التي تجعل بعض الناس منزهين عن الخطأ وهم من يقرر حياة الناس في أي مجتمع، وبالطبع هذا يشمل كافة المستويات الدنيا منها والعليا. يكفي أن يقر مسؤول ما قرارا ما حتى تجد الأغلبية يحولون أنفسهم إلى أدوات طوعية لتنفيذ تلك القرارات. هي فكرة أشبه برواية 1948 للكاتب الإنجليزي جورج أورويل، حيث الأخ الكبير يقرر ما يمكن أن يحصل في الحياة الواقعية، "يقال إن الأميركيين عادوا لقراءة هذه الرواية بعد تنصيب الرئيس ترمب وقراراته في رفض بعض الدول من الدخول إلى أميركا"، فالأخ الأكبر يجعل من الشعوب تابعة لأفكاره الشمولية وقراراته وأهدافه في جعل المجتمع كله وفق مظلة واحدة.

ما يحصل في الواقع العربي هو أشبه بكثير بما يحصل في رواية: حفلة التيس، حيث تقرر السياسات الدكتاتورية تحديد مصير الناس، وترفض أي عملية نقد تجاهها، بل ويمكن أن تقمع أي صوت لا يتوافق مع صوتها الكبير، لتحول الحياة إلى ما يدور في رواية حفلة التيس من قمع للحريات الفكرية والدينية والسياسية والتعبيرية.

يتفاوت الواقع الثقافي والديني والسياسي ما بين حفلة التيس وحفلة التفاهة، فالأولى يقودها النخب، وتحديدا تلك التي تمتلك قرارات سياسية أو فكرية أو ثقافية على الواقع، والثانية يعمل وفقها التابعون الذين يتماهون مع الحفلة الأولى، ليبرز لدينا عدد كبير من التافهين إعلاميا وثقافيا ودينيا ويتصدرون المشهد، حتى أصبحوا هم من يتكلمون باسم الناس، وتتم دعوتهم في بعض المحافل. في المقال سابق الذكر يقول محمد العباس: "يكفي أن يفتعل أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي حدثا عرضيا ليتحول إلى شخصية مشهورة، يتسابق الناس لتأملها والتواصل معها. كما تتفنن برامج الاستعراض التلفزيونية في إبراز مخلوقات على درجة من السطحية وتلميعها. حيث أتقن المولعون بالشهرة لعبة الظهور النرجسي أمام الملأ من خلال مواقف صادمة أو شاذة، ليتحولوا بين عشية وضحاها إلى نجوم يُشار إليهم في المحافل والمناسبات، وهذا الصنف من البشر بالتحديد هو المطلوب في وسائل الإعلام وفضاءات الإنترنت، إذ بقدر ما يبدي الفرد استعدادا لأداء فروض التفاهة، يبدو مشروعا للاستخدام كنجم تلفزيوني أو اجتماعي. وكأن الأمر يسير وفق مخطط لتتفيه الحياة برمتها". ويوسع العباس الدائرة لتشمل غالب الحقول الأخرى، بما فيها الحقل السياسي فيقول: "حتى الحقل السياسي لم يعد محلا للمؤهلين للتفكير الراجح. بل صار مكانا يحتله التافهون، وذلك بتحليل ألن دونو في كتابه (نظام التفاهة). حيث يذهب إلى القول إن العالم صار في قبضة التافهين، إذ لا مجال لا للروحانيين ولا للمفكرين ولا للمتأملين لتوجيه الحياة البشرية، لأن الصفوف الأمامية محجوزة للمعلبين والمائعين الذين يشكلون ركائز نظام التفاهة". (صحيفة اليوم 21 أبريل 2016).

ما يحصل في الواقع هو فكرة واحدة يطبقها من لديه القدرة على اتخاذ القرار، والجميع يجب أن يشارك في إنجاحها، بغض النظر عن كونها ذات مقبولية اجتماعية أو ليست كذلك، هي أشبه بطوباوية ذهنية خاصة بمتخذي القرارات، بحيث تصبح هذه الحياة المثالية التي يطمح لها المجتمع ليست من قبيل تلك الأفكار الحالمة التي تسعى إليها الشعوب، بقدر ما هي أفكار خاصة بفئة قليلة من المجتمع تقرر بشكل فردي أنه الأصلح والأجدر للمجتمع وتسعى إلى تطبيقه، إذ تخرج المجتمعات من شمولية إلى شمولية أخرى، ومن قرارات فردية إلى قرارات فردية أخرى، حتى حينما قررت الشعوب العربية تحديد مصيرها في الثورات السباقة انقلبت الأوضاع ضدها، ليعود التيس من جديد يؤسس لحفلته الخاصة، ليقود الناس إلى حفلة تفاهة كبرى.