لا نستطيع أن نبني موقفا من العلاقات الأميركية الإيرانية على أساس الخطابات والتصريحات والاتهامات المتبادلة بين كل من إيران أو أميركا، وذلك لسبب بسيط هو أننا وعلى مدى ثمانية وثلاثين عاما نسمع تلك الأحاديث عن العداء بين أميركا وإيران، ثم نفاجأ بالاتفاقات بين هذين العدوّيْن المفترضَيْن، دون أن نحصل حتى الآن على أي سلوك حقيقي يؤكد ذلك العداء بينهما.

احتفلت إيران بالأمس بذكرى مرور ثمانية وثلاثين عاما على قيام الثورة التي قادها الخميني من باريس ضد الشاه. يومها تساءل الجميع عن موقف أميركا من دعم الشاه، وكان الواضح آنذاك هو تخلي أميركا عن الشاه. وهذا ما أكّده فيما بعد المسؤول الأميركي بريجنسكي عندما اعترف بأنّهم أخطأوا في تقدير وجهة الثورة الإيرانية، وأنهم دعموها من أجل الذهاب شمالا باتجاه الجمهوريات الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفياتي آنذاك، فكانت النتيجة أن اتجهت إيران إلى الجوار العربي. 

اندلعت حرب الخليج الأولى في العام 1980 أي بعد عامين على تولي الخميني الحكم في إيران. واستطاعت القوات العراقية إحراز تقدم ملحوظ، ثم حصل شيء من التوازن المفاجئ. علمنا فيما بعد عماعرف بـ"إيران غيت"، أي أن إيران تتلقى دعما من الولايات المتحدة الأميركية عبر إسرائيل، وذلك بعد لقاء سري عقد في باريس بين نائب الرئيس الأميركي آنذاك بوش الأب أيام الرئيس ريغان في العام 1985 مع رئيس الحكومة الإيرانية أبو الحسن بني صدر. وتم الاتفاق على دعم إيران بالأسلحة من إسرائيل، وعرفت هذه العملية بـ"إيران غيت".

العام 1988 صدر القرار الدولي 598 الذي أنهى الحرب العراقية الإيرانية بأرجحية عراقية آنذاك. وقد اعتبر ذلك نتيجة نصيحة أميركية لإيران لعدم قدرتها على الاستمرار بالحرب وحفظ النظام. وهذا ما عبر عنه الخميني خلال تصريحه بالقبول بذلك القرار، على أن مصلحة النظام الإيراني تقتضي القبول به. وبدأت مرحلة التطبيع العلني مع المجتمع الدولي، وتم انتخاب رفسنجاني لولايتين وبعده خاتمي أيضا.

تنعّمت إيران بالهدايا الأميركية بدءاً من حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت، الذي وضع بغداد تحت الحصار، والذي أباح لإيران التنعم بالجنوب العراقي واختراقه، وفتح آفاقا جديدة مع العالم تحت راية العداء الدولي لصدام، ومن ثم اتهامه بالتسلح النووي. واستطاعت إيران أن تعزز تمدّدها إلى سورية ولبنان تحت غطاء فكرة المقاومة من جنوب لبنان، وتعزيز حضورها السياسي في البرلمان اللبناني، وتمكّنها من نقاط ضعف النظام السوري، إذ استطاعت ضرب كل مراكز القوى السورية المناهضة للدور الإيراني في المشرق العربي، حتى كانت سنة 2000 وانسحاب إسرائيل من لبنان في 25 مايو، ثم وفاة حافظ الأسد بعد أسبوعين في العاشر من يونيو 2000، وبذلك كانت إيران قد تمكّنت من سورية ولبنان بموافقة أميركية. 

استفادت إيران من عمليات 11 سبتمبر 2001 في أميركا وقدّمت نفسها عدوا للقاعدة، وأباحت للأميركان استخدام أجوائها لضرب أفغانستان لأسباب إنسانية، وتخلّصت من نظام طالبان على حدودها، ثم ساعدت على احتلال العراق 2003، ودخلت رسميا من خلال فيلق بدر مع القوات الأميركية إلى بغداد، وكانت شريكا علنيا لأميركا في العراق. وعندها تحقّق حلم إيران بفتح الطريق البرية إلى المتوسط مرورا بالعراق وسورية إلى لبنان.

ساهمت إيران في تعميق المأزق الأميركي في العراق حتى أصبح بمثابة فيتنام ثانية، تعرضت خلاله هيبة أميركا للخطر، بالإضافة إلى الكلفة المادية والبشرية على القوات الأميركية. وغيّرت إيران القيادة، وجاءت في 2004 بالحرس الثوري والمتشددين برئاسة محمود أحمدي نجاد لمدة ثماني سنوات، ولدورتين كل منهما أربع سنوات، واستطاعت أن تبتز أميركا في العراق، وتحصل على الانسحاب الأميركي مقابل وعد بالتوقيع على الاتفاق النووي مع الرئيس أوباما قبل انتخاباته الثانية. ولم يحصل هذا الأمر إلا بعد أن جاء الرئيس الإيراني روحاني، الذي يواجه اليوم تحديات في الانتخابات القادمة في شهر مايو القادم.

هذه بعض المحطات الإيرانية الأميركية لتنشيط الذاكرة، وهناك تفاصيل كثيرة في هذا المجال. أردنا من هذا العرض التنبه للخطاب العدائي الجديد بعد انتخاب الرئيس دونالد ترمب، الذي يضع الخلاف مع إيران في رأس أولويات السياسة الخارجية الأميركية. وهنا لا نريد أن نشكّك في الموقف الأميركي، بل نريد أن نتيقن من تلك السياسة، وخصوصا أن إيران رحّبت بهذا العداء، وبدأت الخطابات و"الموت لأميركا" تعود من جديد.

لا أعتقد أن الأمور هذه المرة ستكون غامضة أو تحتاج إلى وقت طويل لاستبيان الفرق بين سياسات ترمب وسياسات أسلافه مع إيران، وذلك من خلال النظر إلى الميدان السوري بالذات وما يعرف بمعركة "الرقة"، والتي يبدو أن الرئيس الأميركي يريد أن يجعل منها إنجازه الأول بعد تعثره السياسي الداخلي. ومعركة الرقة ستفرض تحالفات وآليات تتجاوز الدور الإيراني في سورية ولبنان، وكذلك الأمر بالنسبة للعراق، لذلك علينا أن ننتظر الميدان العسكري السوري لنعرف حقيقة الصداقة والعداء بين أميركا وإيران.