-1-
يُفترض في عنوان هذا المقال السؤال، أن يكون أكثر شمولاً، فيأتي على النحو التالي:
هل الديموقراطية عصيّة في العالم العربي؟
بل يفترض في هذا العنوان أن يفتح عدسة الكاميرا على درجة 180، ويسأل: هل الديموقراطية عصيّة في العالم الإسلامي؟
لكنّا اضطررنا إلى العنوان الأول، لأنه عنوان كتاب أستاذ علم الاجتماع في جامعة البحرين، الباحث والمفكر البحريني باقر سلمان النجار، الذي حاز كتابه "الديموقراطية العصية في الخليج العربي" على جائزة الشيخ زايد آل نهيان للكتاب. والأستاذ النجار من الباحثين الاجتماعيين والسياسيين التنويريين الجادين في البحرين ومنطقة الخليج. وسبق له أن قدم للمكتبة العربية عدة كتب جادة ونافعة في علم الاجتماع وعلم السياسة، منها: "صراع التعليم والمجتمع في الخليج العربي"، و"الحركات الدينية في الخليج العربي"، وهذا الكتاب العلمي "الديموقراطية العصيّة في الخليج العربي".
ولكن السؤال الذي ربما يتبادر إلى ذهن القارئ هو:
لماذا هذا الكتاب اليوم؟
ولماذا هذا الكاتب اليوم؟
لقد تعمدت – بصراحة – أن أقدم هذا الكاتب والكتاب اليوم، لكي أضع النقاط على الحروف، وأوضح أهمية أن يكون الأكاديمي في العالم العربي عامة، وفي الخليج العربي خاصة، منهمكاً ومهتماً فيما يجري خارج أسوار معهده وجامعته. ولا يعيش في برج الأكاديمية العاجي، يُلقن طلبته ما حفظه فقط من أساتذته، دون أن يقدم للفكر إضافة جديدة.
والأكاديمي باقر سلمان النجار هو المثال الجيد، الذي نريد من الأكاديميين العرب والخليجيين، أن يحتذوا حذوه في الانهماك والاهتمام بقضايا مجتمعاتهم، ويعملوا محاريثهم، وأقلامهم، وأدواتهم البحثية العلمية، في هذه المجتمعات.
فباقر النجار لم يُضع وقته في صراعات طائفية، أو سياسية، أو حزبية عقيمة، كما فعل كثير من مثقفي العالم العربي والخليج العربي على وجه الخصوص، وخاصة في البحرين، التي اشتُهرت بكثرة الاتجاهات والمنابر السياسية والدينية المختلفة. كما أن النجار لم تشغله المناوشات والمماحكات الصحفية التي ينشغل بها كثير من الكتاب العرب، وإنما انصرف إلى البحث، والدرس، والإنتاج العلمي المفيد. والجميل في إنتاج الأستاذ النجار، أن هذا النتاج لم يكن نتاجاً تجريدياً بعيداً عن مشاكل مجتمعه، أو المجتمعات المحيطة به، بل كان في صميم مشكلات هذه المجتمعات، التي تناولها بكل شجاعة، ومهنية أكاديمية قويمة. وكان من ضمن هذا النتاج كتابه، الذي نتحدث عنه اليوم "الديموقراطية العصيّة في الخليج العربي".
-2-
فهل الديموقراطية في الخليج العربي عصيّة حقاً؟
من خلال كتاب النجار، ندرك أن إشكالية الديموقراطية في الخليج العربي خاصة هي إشكالية اجتماعية، قبل أن تكون إشكالية سياسية. بمعنى أن تحقيق الديموقراطية في الخليج، أو في أي بلد على سطح هذه الكرة، لن يتم إلا إذا شعر كافة المواطنين دون استثناء، أن هذا الوطن هو وطن الجميع، وهو مُلك الجميع، وأن دولة الوطن، هي دولة الجميع، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع المدني الحديث. ويقضي هذا الأساس، إقامة نوع من الاتفاق أو "العقد الاجتماعي"، الذي يساعد الشعب على الانتظام في دولة واحدة. وبذا يكون المجتمع المدني بكل بساطة – كما يقول عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار في كتابه "المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب" ، ص 11 " – "هو كل تجمع بشري خرج من حالة الطبيعة (الفطرية) إلى الحالة المدنية، التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على اتفاق تعاقدي. وبذا، فإن المجتمع المدني هو المجتمع الذي يُعبِّر عن كل واحد فيه. وهو كلٌ يضمُ المجتمع والدولة معاً." ويقول الأستاذ النجار عن المجتمع المدني السعودي في كتابه، من أن "تشكيل هيئة صحفية أهلية سعودية، تضم الصحفيين السعوديين، وتدافع عن مصالحهم، يُعدُّ تحولاً مهماً في إطار نشأة ونمو المجتمع المدني في السعودية، قد يساهم إذا ما اتسعت فضاءاته، وتنوعت منظماته، في إيجاد بيئة مناسبة للحوار بين التجمعات المختلفة". (ص 254).
-3-
أهمية كتاب الأستاذ النجار، أنه ينقل لنا دور العناصر الاجتماعية في تكوين المجتمع العربي الخليجي. فيتحدث في كثير من أبوابه عن كيفية إدارة مؤسسات المجتمع المدني النامي في الخليج العربي، ودور التجار المؤثر والكبير في تكوين المجتمع. ولكن هذا الدور انكمش بعد اكتشافات النفط في الخليج، وتحوّل المجتمع من مجتمع اقتصادي منتج، إلى مجتمع ريعي منتفع. فحلّت في هذه المجتمعات "لعنة النفط"، كما يشير الباحثان الإنجليزي جوردون جونسون نائب رئيس جامعة كمبردج والباحث العراقي مجيد الهيتي في كتابهما (لعنة النفط: الاقتصاد السياسي للاستبداد).
فكيف يمكن لهذه الثروة أن تتحول من نعمة إلى نقمة، أو إلى "دم الشيطان"، كما أطلق عليها فيرنون سميث الأستاذ في جامعة جورج ماسون، في محاضرة له في "معهد السلام" في واشنطن 2003، أو "فضلات الشيطان" كما أطلق عليها المسؤول الفنزويلي خوان بابلو الفونسو، مؤسس "منظمة الأوبك"؟
ولكن، لا شك في أن أوجه استعمال هذه الثروة، هي فقط التي تجعل من هذه الثروة النفطية نعمةً، أو نقمة.
-4-
يوصينا باقر النجار بأن نفتح نفوسنا قبل أبوابنا للديموقراطية. فلا مجال، ولا فائدة من فتح الأبواب للديموقراطية، والنفوس صادة عنها، رافضة لها، ضيقة بها.
وفتح النفوس للديموقراطية يكون باتباع التالي:
1- دعم المجتمع المدني لكي يصبح قوة مؤثرة ودافعة بالدولة والمجتمع نحو الدمقرطة، ليس كخطوة تكتيكية لتجاوز ضغوط الداخل والخارج، وإنما كعمل مرحلي من أجل إقامة مجتمع ديموقراطي حقيقي، يتجاوز كل كبوات الماضي، وخروقه.
2- إيجاد مجتمع مدني حر في فعله الاجتماعي والسياسي والثقافي. وبهذا تكتمل الممارسة الديموقراطية.
3- لا شرط لوجود المجتمع المدني بوجود مجتمع حداثي. فكل مجتمع مدني يُعبِّر في أطره وخطابه عن البيئة التي ينشأ فيها.
4- التغيير الحقيقي لا يأتي إلا عندما يتحول الوطن والوعي به، على أنه وطن لكل المواطنين، وأن الدولة شأن عام يخص كل المواطنين. فلكل المواطنين الحق في الوطن، وللوطن واجب على الجميع.
5- إن الداخلين إلى العصر الحديث، لا الخارجين منه، هم فقط من يعون التاريخ، ويعملون بأسبابه.
وهذه المفاتيح الرئيسية الخمسة، وباقي المفاتيح الأخرى التي ذكرها باقر النجار في كتابه، هي الكفيلة بفتح النفوس للديموقراطية قبل الأبواب، لكي لا تصبح الديموقراطية عصيّة، لا في الخليج العربي فقط، ولكن في العالم العربي أيضاً.