في إحدى قضايا كتابه المترجم تحت عنوان (تربيع الدائرة) يطرح الفيلسوف جوليان باجيني، تساؤله حول نموذجين من البشر. أحدهما هو السيدة تراين التي كانت تبدو مغمورة بحبها للآخرين كما كانت تقوم بعمل الخير بصورة عفوية للغاية، إذ كان يغزوها التعاطف بمجرد شعورها بكربة شخص ما فتستجيب لذلك دون تفكير. أما النموذج الآخر فهو السيدة (شويلر) التي كانت تتعامل مع المواقف الأخلاقية ببرود يوشك ألّا تصحبه استجابة عاطفية تذكر، على أنّها تساعد الآخرين تلبية لأفكارها عن مفهوم (الواجب)، حيث يرضيها إحساسها بأنها اختارت الصواب وإن لم تكن تشعر بالوهج الدافئ لأعمالها الحسنة.

يقول إن الناس يندفعون إلى وصف أمثال تراين بصفات نحو الطيّب والنبيل والرحيم أكثر من وصفهم أمثال شويلر بذلك. فالناس يرتاحون لما يشعرون بتجذّره الطبيعي ويرون فيه إشارة إلى جودة الجوهر. ولكنّ باجيني لا يحبّ أن يتفق مع أغلبية الناس في هذا، فهو يشير بأكثر من طريقة إلى أنّ شويلر تتفوّق على نظيرتها من حيث استحقاقها الإطراء على أخلاقها، فإذا كانت الأخلاق تقتضي فعل الشيء الصواب فاحتمالات توفيق شويلر لذلك أعلى مما هو الحال لدى تراين. شويلر مثلا لن تعطي المتسولين المال مباشرة بل ستبحث عن مؤسسات موثوقة تقوم بالعمل الذي تظنه سليماً تجاه المحتاجين لتسلمها أموالها. كما أن الغرائز مهما كانت خيّرة فهي معرّضة دائماً إلى الانزلاق والضلال، وليس الأمر كذلك مع الفعل الخيّر المحسوب تحت مسؤولية العقل.

ربما من المفيد قبل أن نتطرق لما أتصوره عن هذه القضية، أن أربطها بما يسميه بعض علماء النفس والأعصاب (نظرية نظام العمل الثنائي) التي تقتضي وجود طريقتين يعالج بهما الدماغ مدخلاته، إحداهما سريعة وآليّة وتحت سطح مستوى الوعي، والثانية بطيئة وواعية، وهي النظرية التي بنى عليها، يقول (دانيال كانمان): "إن معظم تصرفاتنا الخاطئة تنتج عن عدم التمييز بين مجالي استعمالهما، أي عندما نستخدم الأسلوب الحدسي حيث ينبغي استعمال الأسلوب المنطقي أو العكس".

ولكن إلى أيّ من هذين المجالين ننظر عندما نبحث عن إجابة لسؤال أخلاقيّ؟ وهل التعامل مع الآخرين وفق الانفعال العاطفي أكثر أخلاقية من التعامل معهم وفق التحليل المنطقي أم خلاف ذلك؟.

ما يبدو لي هو أنّ السمة الأولى للتفكير الأخلاقي هي محاولة الموازنة بين نظامي الانفعال العاطفي والتحليل المنطقي، وإن أي جنوح في السلوك لأحدهما دون الآخر يصعب وصفه بالعمل الأخلاقي مهما كانت نتائجه مجدية أو خيّرة.

نحن نشعر في أعماقنا بتلك الدوافع التي تدعونا للتعاطف مع الآخرين عند مشاهدتهم في موقف صعب. من خلال بلورة تلك المشاعر المألوفة وترقيتها إنسانياً نكتسب سمة (الرحمة). كما أنّنا ندرك فطرياً أهمية المساواة، وتميل عقولنا إلى الإحساس بجمالية التكافؤ والتناظر، فينشأ عن هذا الإدراك معرفتنا الإنسانية بأهمية (العدل).

الفعل الأخلاقي في حقيقته يقوم على تفاتل الخيط العاطفي الذي تمثّله الرحمة بالخيط العقلاني الذي يمثّله العدل، وهذا ما ينشأ عنه القلق الأخلاقي المستمرّ عند مواجهة كل موقف ينبغي معالجته أخلاقيّاً. فلنتذكّر تلك المعاناة التي يعرفها المعلمون عندما يواجهون مسؤوليتهم عن مصير أحد طلابهم من خلال منحه درجة ما أو منعها عنه. إنّه قلق التوفيق بين الرحمة والعدل كقيمتين من أسمى قيم الإنسانية.

في الأخلاق لا يجري الأمر كما هو الحال في الفن حيث يغلّب الانفعال، ولا كما هو الحال في العلم حيث يغلّب المنطق العقلاني. توخّي الأخلاق يعني المعاناة الدائمة، وعدم اتّباع قوانين واضحة مريحة بل إجراء محاكمة ذاتية عند كل موقف واجتهاد دائم لا قطع فيه بصواب.  وإن كان هناك من يذهب إلى أن للرحمة امتياز الدلالة على النبل عند التعامل مع الأقربين أو ضمن الدوائر الأضيق من البشر، كما أن العدل معلم للإشارة على الفضل عند التعامل مع الأباعد أو ضمن الدوائر الأوسع من البشر. وربّما من أجل هذا جاء في القرآن الكريم (واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة) عند الحديث عن العلاقة مع الوالدين كما جاء (اعدلوا هو أقرب للتقوى) عند التطرق للعلاقة مع الخصوم. ولكن تفاتل الرحمة والعدل باقٍ في الحالين وإن غلظ وثاق أحدهما ورقّ وثاق الآخر في بعض الظروف. إذن فالفرد الأخلاقي الحقيقي هو ذلك الذي تتنازع ضميره (تراين) و(شويلر) في كل مرّة فيفلح في التوفيق بينهما تارة ويضطر للتحيز لإحداهما تارة أخرى. الأمر أشبه بالتزاوج السامي بين العقل والقلب فهو تزاوج من حيث هو ائتلاف ووئام ومن حيث هو تنازع وتناشز، كأي علاقة تزاوجية تتيح الطبيعة لنا إدراكها.

أخيراً، ربما علينا الوعي بأن سلوك كل شامت بسقوط أخلاقي تورط فيه سواه من البشر يشي بأنه خارج إطار ما يدّعيه من فضل أخلاقي على الأغلب. فالشماتة دليل الجهل بالمعاناة والجهل دليل غياب التعايش مع أسئلة الأخلاق الملحّة.