يمتد التأريخ الإسلامي منذ تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة وحتى الأمس، ويُستثنى اليوم كونه لا يزال ضمن الحاضر ولم يؤرخ بعد، من يقرأ هذا التاريخ قراءة سريعة هدفها الاطلاع وحب المعرفة، لا قراءة البحث والتدقيق، سيجده تاريخا ملائكيا ناصع البياض، حافلا بالأحداث والمواقف العظيمة والمشرفة، وسيقف أثناء القراءة على شخصيات بلغت أو تكاد تبلغ الكمال في العلم والقوة والشهامة والزهد والتقوى والورع.
من يقرأ التاريخ الإسلامي قراءة سريعة -وهذا ما يفعله معظمنا- لا يمكن له إلا أن يخرج بالحكم والمواعظ والكثير من الروائع التي تجعله يفتخر بماضيه و"يتحسف" على يومه الذي لم يؤرخ بعد، فمتى ما تم تأريخ هذا اليوم بكل ما فيه من رزايا سيتحول فجأة وبلا مقدمات "أجمل وأكمل"!، ثم سيأتي في الغد من لا يجد ما يقرؤه في تاريخه الذي هو حاضرنا إلا صفحات ناصعة البياض، وسيتساءل حينها كما نتساءل اليوم: أين تدرجات الألوان عن هذا التاريخ؟ أين السواد والرمادية فيه؟ أين الحقيقة؟
وإن هذه القراءة السريعة للتاريخ الإسلامي ليست حكرا فقط على رجل الشارع من عامة الناس، إنما هي الأسلوب المتبع غالبا في المدارس والجامعات والمساجد وحتى الإعلام، فيقرأ العامي في الشارع ويخطب الخطيب في المسجد، ويشرح المعلم في الفصل تاريخا تم التعامل معه بأسلوب لا يختلف كثيرا عن أسلوبنا اليوم أثناء التعامل مع الأفلام والمسلسلات والكتب والمقالات، أسلوب التنقية والتنقيح وحذف كل ما يخدش الحياء العام وكل ما فيه مخالفة للثوابت وتجاوز للخطوط الحمراء، والتعامل مع التاريخ بهذه الطريقة لا يجعله تاريخا، إنما أقرب لكونه "فيلما عائليا" محترما جدا، الأشخاص فيه منزهون معصومون لا يخطئون أبدا، والمشاهد فيه لا تخدش الحياء العام ولا تسيء إلى سمعة الأمة، ومشكلة تحويل التاريخ إلى فيلم عائلي أن جمالية الصورة فيه تأتي على حساب الحقيقة.
أما مشكلة التاريخ الإسلامي الأخرى فأنه ليس نسخة واحدة، إنما نسخ متعددة بتعدد المذاهب والطوائف، فيقرأ القارئ المنتمي لهذا المذهب أو ذاك نسخة من التاريخ، كل الأبطال والعظماء فيها ينتمون لمذهبه وطائفته، وتُحيط بهؤلاء الأبطال هالات من الطُهر والعصمة والملائكية والنورانية، أما الأشرار فيتم ترحيلهم إلى المذاهب والطوائف الأخرى بصفتهم نبتة غريبة أو دخيلة على أهل الإسلام، وما ينطبق على الأشخاص في التاريخ ينطبق على الأحداث والمواقف، فالحدث العظيم والموقف المشرف من نصيب مذهب القارئ وطائفته والدنيء من الأفعال فمن نصيب الآخرين، وقد لا يجد القارئ إشارة صريحة بهذا المعنى إلا أن عقله الباطن لن يستوعب غير هذا الأمر، لأن عملية كتابة التاريخ تمت بقلم الأدلجة والتحزبات والتمذهبات، فجاء معلم المدرسة وخطيب المسجد ليؤكدا له هذا الأمر مرارا وتكرارا حتى آمن به وبات جزءا من قناعاته الراسخات.
إن عملية أدلجة التاريخ بالإضافة إلى إسباغ صفة القداسة عليه مع تنزيه الشخصيات المؤثرة فيه، وشيطنة شخصيات أخرى لأهداف تحزبية مذهبية، كل هذا وأكثر حول التاريخ الإسلامي لقصة أو رواية درامية مؤدلجة مقدسة ومتناغمة مع المُتخيل الديني لكل طائفة ومذهب، رواية أو بمعنى أصح نسخ متعددة لرواية لا تزال تسهم في تأجيج الصراعات الطائفية المذهبية في العالم الإسلامي إلى اليوم، إن كل جماعة لديها نسختها المقدسة من التاريخ، وهي تتعامل مع هذه النسخة المحددة كأنها قرآن لا يجوز التساؤل حول أي من أحداثه أو شخوصه فضلا عن التشكيك! وغدا حين يتم ترحيل حاضرنا لخانة التاريخ سيأتي من يقرأ تاريخه الذي هو حاضرنا مبتسما لقناعته بأن ما يقرؤه فعلا محترم جدا! وسنكون نحن بالنسبة له أولئك السابقين الذين عاشوا في فترة لا لون فيها يطغى على البياض الناصع، ولن يقتنع حتى وإن سافرنا إليه عبر الزمان لنخبره بأن واقعنا ليس بهذه الملائكية التي يؤمن بها، وأن فيه من الرزايا ما الله به عليم، لن يقتنع كما أن بعضنا اليوم لا يقتنع سوى بحقيقة واحدة، أن النسخة المحددة له عن التاريخ الإسلامي هي نسخة مقدسة لا يجوز نقدها أو المساس بشخصياتها بأي حال.