تحتاج الشعوب الخليجية إلى خطاب سياسيّ جديد، إذ شكّل الخطاب العروبي الوحدوي في الستينيات الأرضية المشتركة لقناعات كثير من النخب والجماهير على السواء، فيما يتعلق برؤية الذات والآخر، بحيث كان تعريف الفرد لذاته ووطنه ينطلق من مفهوم العروبة كقاعدة للانتماء، تتوارى أمامها جميع التصنيفات الأخرى الدينية والمذهبية، ولربما العرقية، إلا أن لذلك الخطاب كثيراً من الإشكاليات، وواجه كثيراً من التحديات المختلفة وظهر إلى السطح عدد من الأيديولوجيات مثل التوجهات اليسارية وأيديولوجيا ما أصبح يعرف بالإسلام السياسي، وكذلك بروز أيديولوجيا ولاية الفقيه على الضفة الشرقية للخليج العربي.
ولعلنا نركز في هذا المقال على النوع الأخير من الأيديولوجيات المشار إليها أعلاه، لقد مرّ تفاعل المجتمعات الشيعية العربية مع خطاب ولاية الفقيه بأربع مراحل ارتبطت في كثير من الأحيان بالظروف السياسية أكثر من ارتباطها بمضمون الخطاب ذاته. المرحلة الأولى لهذا التفاعل كانت في العامين الأولَين من أعوام الثورة الإيرانية عندما روّج النظام الإيراني لأفكار "اللا شرقية واللا غربية" و"معاداة الإمبريالية"، وإقامة المجتمع الإسلامي، وقد لاقت هذه الأفكار رواجاً كبيراً لدى التجمعات الشيعية العربية بحكم عدم الخضوع لاختبار لمصداقيتها.
والمرحلة الثانية هي مرحلة الحرب العراقية الإيرانية، وهي مرحلة خطاب تصدير الثورة الإيرانية، وكان الخطاب الإيراني يركِّز فيها على الدعوة إلى تغيير الأنظمة العربية عبر استنساخ الثورة الإيرانية داخل الدول العربية، ولم يكُن يركّز على البعد الطائفي المذهبي بقدر تركيزه على البعد الثوري في هذه المرحلة، ومِن ثَمَّ لم تكُن الاستجابة له بنفس القوة التي كان يأملها.
أما المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الاختراق والاحتواء، فكانت منذ تحرير الكويت حتى بداية الاجتياح الأميركي للعراق، وفيها بدأ الترويج الفعلي لخطاب ولاية الفقيه وفق البعد المذهبي له بين التجمعات الشيعية العربية، وازداد استقبال الطلاب الشيعة العرب في الحوازات الدينية الإيرانية، وبدء العمل على إعلاء المذهبية التي تطعن في الدولة الوطنية وتأسيس الانتماء المذهبي العابر للحدود، وزاد من قوة هذا الخطاب هزيمة الخطاب العروبي القومي وتراجعه بعد حرب تحرير الكويت وما صاحبها من انقسامات عربية.
والمرحلة الرابعة هي خطاب إعلان إيران عن فرض الحماية على المجتمعات الشيعية العربية، بدايةً من الاجتياح الأميركي للعراق حتى الآن، وتَجَلّت مظاهر هذا الخطاب في التدخلات الإيرانية في العراق والبحرين والمملكة العربية السعودية.
والواقع أن هناك حالة من التغافل عن جوهر الحريات العامة والمشاركة السياسية في خطاب ولاية الفقيه، مع التركيز على القشرة الظاهرية التي يصّدرها النظام الإيراني للتجمعات الشيعية في المنطقة العربية، سواء عبر مشاهد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتكررة، أو ادعاء الإنجازات الاقتصادية للنظام. ينطوي خطاب ولاية الفقيه على التسليم بالإلغاء الكامل لحقوق الفرد داخل وطنه في المشاركة في صنع القرار، وإلغاء سلطة المؤسسات المنتخبة أمام إرادة الولي الفقيه.
لكن قد يتساءل البعض كيف حققت إيران بعض النجاحات على الرغم من هذه النقاط الضعيفة في مشروعها الأيديولوجي؟ ترى إيران أن الولاية عامة لكل شعوب وقبائل وأوطان الأمة الإسلامية وإن لم يُعملها الفقيه بالفعل إلا في البلد المبسوطة فيه يده، حتى لا يُتّهم بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد الأخرى حسب عرف عالم الاستكبار اليوم. فلو أنه أراد إعمال الولاية خارج حدود دولته كان له ذلك وكان أي حكم ولائي يُصدره ويوجهه لأبناء الأقطار الأخرى يتمتع بالنفوذ والحجية ودرجة الإلزام نفسها التي تكون للحكم الذي يوجهه لأهل بلده.
من هنا لعلنا ننتقل إلى الفكرة الرئيسة في هذا المقال وهي خطاب المواطنة الخليجية. بداية نعتقد بأن تنامي هذا الخطاب لم يكُن من منطلقات ثقافية فكرية في البداية، وإنما كانت أزمة احتلال الكويت ثم تحريرها نقطة البداية لانطلاق الخطاب الخليجي، ثم مشروعات التكامل الاقتصادي والقوانين المنظّمة لانتقال الأفراد بين دول مجلس التعاون، وحرية الاستثمار وانتقال رؤوس الأموال بين دول مجلس التعاون أمور أسهمت إلى حدّ كبير في نموّ الخطاب الخليجي الموحَّد.
ولقد استشعرت الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي مؤخراً أهمية إنتاج خطاب موحَّد للمواطنة الخليجية فعقدت في سبتمبر 2016 ندوة بالتعاون مع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت بعنوان «تعزيز الهُوِيَّة الوطنية الخليجية»، خرجت بجملة من التوصيات، رُفعت إلى لجنة الثقافة في وزارات الثقافة لدول التعاون لدراستها، منها وضع إطار لتعزيز الوحدة الخليجية في المناهج التربوية والتركيز على النشء، ودعم المؤسسات الإعلامية لإنتاج مشروعات وبرامج توعوية مشتركة، والإسهام في تشجيع المراكز البحثية، والاهتمام بالموروث الشعبي والرسمي، مع مشاركة دول التعاون في المناسبات الخاصة بالموروث، إضافة إلى تشجيع ودعم المبادرات الشبابية والتطوعية المتخصصة برفع مستوى الحس الوطني وتعزيز الهُوِيَّة والوحدة الوطنية الخليجية.
لكن هل يمكن أن يكفي خطاب المواطنة الخليجية عن الخطاب العروبي والخطاب الإسلامي في مواجهة خطاب ولاية الفقيه لدي التجمعات الشيعية العربية في منطقة الخليج؟
للإجابة عن هذا السؤال يجب الوقوف على عناصر خطاب المواطنة الخليجية وما يقدّمه من قناعات للمواطن الشيعي الخليجي للاندماج في مجتمعه الخليجي ومؤسساته، ومنها أن الخطاب يقدّم اعترافًا بحقّ المشاركة الشاملة وفقا لنسبة هذا المكون في المجتمع الخليجي، وتجاوز الخلافات والاختلافات المذهبية ونبذ خطاب التكفير والإقصاء من كلا الجانبين على حد سواء، وتجريم من يجنح لذلك. في المقابل يفرض هذا الخطاب الواجبات على كل مواطن، ومنها رفض الانتماءات العابرة للحدود والولاءات الخارجية سواء المذهبية أو الفكرية أو الثقافية وتجريمها مجتمعيا، وأن يكون الولاء للسلطة السياسية للدولة وقوانينها ومؤسساتها وخدمة الدولة والعمل على رفعتها.
ومن الواضح أن تدعيم خطاب الهُوِيَّة الخليجية سيؤدي إلى تدعيم الهُوِيَّة الخليجية والشعور بالانتماء إلى كيان واحد، وتسريع التحول من المجلس إلى الاتحاد الخليجي، وتجاوز الانتماءات القبلية أو المذهبية أو المناطقية والجهوية والفئوية. كذلك قد يسهم هذا الخطاب في تبنِّي برامج تعليمية وثقافية وتوجهات سياسية مشتركة أكثر تناغما، والأهم إغلاق الثغرات الفكرية والمجتمعية أمام المشاريع الخارجية وتحصين النسيج الاجتماعي من التوجهات التوسعية ورغبات الهيمنة التي تستهدف هذه الدول.