يرى العالم الروسي Vygotsky رائد النظرية الاجتماعية الثقافية في علم النفس، أن الإنسان ابن بيئته، وأن اكتساب أو تطبيع أي سلوك أو مهارة لا بد أن يؤثر ويتأثر بالظروف المحيطة بالفرد، هذه الظروف تتكون ضمن الإنسان نفسه أولا، ثم ضمن مجتمعه الذي يتشكل بداية من الوالدين والأسرة الأكبر "الإخوة والأقارب والأجداد"، ثم المؤسسة التعليمية والمجتمع الأكبر.

في تعليق آخر له يقول، إن رحلة اكتساب الإنسان لسلوك محدد أو مهارة معينة يتم على مرحلتين، الأولى: داخلية يعالج فيه الإنسان التحديات المتاحة في رحلة الاكتساب بطريقته الخاصة، ثم يراقب من حوله ليعزز أو يوجِّه أو يحسِّن أو يتحدى هذه المهارة/ أو السلوك، ويتخذ اتجاها محددا حيالها إما بالاستمرار فيها أو التوقف عنها والبحث عن بديل أو طريقة أخرى.

تذكرتُ هذه القراءات وأنا أطالع تعليق معالي وزير التعليم على موضوع ارتفاع نسبة الغياب في اليوم الأول من الفصل الدراسي الثاني، فقد وجّه معاليه ملاحظة عامة للجميع من حسابه الخاص في تويتر، يدعو فيها إلى مزيد من الانضباط والحرص على الحضور إلى المدرسة وعدم التغيب، بعد زيارته مدرستين في الرياض وتفاجئه بارتفاع نسبة المتغيبين.

أظن أن ظاهرة تغيب الطلاب عن المؤسسات التعليمية في الأسبوع الأخير والأسبوع الأول من العودة إلى المدارس، هي خلل تشترك في مسؤوليته عدة أطراف، هي: الطالب نفسه، وأسرته، وقوانين المؤسسة التعليمية المنتمي إليها، وأنظمة المجتمع.

وبحسب فهمي لـِVygotsky، لا يكفي استهداف أحد أطراف هذه المعادلة باللوم أو المعالجة وترك بقية الأطراف خارج الإطار، بل يجب وضع خطة متكاملة تعالج المشكلة من أساسها، وليست الظواهر المترتبة عليها فقط.

ولتقريب الصورة للذهن، أعتقد أن الغياب عن المدرسة في هذه الحالة هو "الحمّى" التي تصاحب المرض وليس المرض بحد ذاته.

الخلل في ظني هو غياب الدافع عند المتعلم، وهذا الغياب تسببه بيئة مؤسساتنا التعليمية غير الجاذبة للمتعلم، والأنظمة المحيطة التي لا تواجه مشكلة الغياب بالجدية اللازمة، الجدية التي تستهدف الأسباب وليست الأعراض.

علينا صناعة مدارس وبيئات تعليمية جاذبة للمتعلم، تحفّزه وتشجعه وتتحدى قدراته، وتواكب ما يعرفه عن العالم، فبعض مقرراتنا ما زالت معلوماتها تحبو في عصر يحلّق فيه المتعلمون بسرعة فائقة من معلومة لمعلومة عبر الأثير الفضائي والمصادر المفتوحة.

كذلك يجب تجهيز الطاقم التعليمي والإداري الذي يمارس مهنته بالحماس نفسه، وبخطة قابلة للقياس، ومحددات واضحة من اليوم الأول لليوم الأخير.

كما يجب على الأسر أن تعزز أهمية الانضباط وتسعى إلى تحقيقه، وتتعاون مع المدرسة في ذلك بفتح قناة للتواصل حول هذا الموضوع، كذلك يتحمل المجتمع -وبالذات الشخصيات المؤثرة عبر الوسائط الإعلامية المختلفة- مسؤولية الإسهام في خلق صورة إيجابية للعام الدراسي، وضرورة الانضباط لتحقيق أهداف المؤسسات التعليمية، ويشترك الجميع في ضرورة الحد من الرسائل السلبية والنكات الممجوجة التي تسهم في تعميق جذور ظاهرة الغياب، وتؤخر علاجها.

كما يقع على عاتق وزارة التعليم العبء الأكبر في التصدي لهذه الظاهرة أدبيا وقانونيا، كما تفعل وزارات التعليم في الدول الأخرى، من ذلك على سبيل المثال المبادرة بمنع تداول المسميات السلبية مثل "الأسبوع الميت" إذ أسهم تداول هذا المسمى في تفاقم الظاهرة وجعلها "أمرا واقعا".

من ذلك أيضا، تحديد نسبة للمواظبة خلال العام، بحيث لا يسمح بأي حال أن يتجاوزها الطالب دون عذر مقنع، و في حال تجاوزها يتم استدعاء ولي أمره ومحاسبته بتهمة التفريط في الرعاية الأبوية والإهمال.

إن مسألة الانتظام في الدراسة في الدول الحريصة على التعليم وبناء المستقبل ليست مسألة اختيارية أو خاضعة لمزاج الأهل وجدول رحلاتهم الاستجمامية أو زياراتهم الأسرية.

فعلى سبيل المثال، أقرت الجهات المسؤولة في بريطانيا هذا العام قانونا يسمح باستدعاء ولي الأمر للمحكمة العليا (Supreme Court)، في حال ثبت أن الأبناء تغيبوا عن المدارس للذهاب في إجازة خلال الأسابيع الدراسية، وتم تداول هذا الخبر في نشرات الأخبار مع مناقشة الساعات والأموال التي يتم هدرها بسبب الغياب خلال العام الدراسي. 

إن أي سلوك اجتماعي يستحدثه فرد سيتنامى أو سيتم تحجيمه خلال ردة الفعل عليه من الجهات المعنية، وفي ظل غياب أطراف المعادلة المتمثلة في بيئة تعليمية متكاملة جاذبة للمتعلم، ومحاسبة رادعة للمتغيب، وأسرة ترعى الجهود المبذولة وتقدّرها، ومجتمع يدعم المحسن ويشجّعه وينتقد المقصِّر ويأخذ على يده، كل هذا تحت مظلة قوانين واضحة وحازمة، وبمساعدة ودعم إعلام واع ومنصف وموضوعي، فإن الغياب لن يتوقف، وسنرى التصريحات المتفاجئة من ارتفاع نسب الغياب تتكرر بتكرر المواسم.