يقول الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُركم أَن تُؤدوا الْأَمَانَاتِ إِلَى? أَهْلِهَا، وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ* إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ* إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرسول وَأُولِي الْأَمر مِنكم).
قال شيخ المفسرين ابن جرير: (وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قول من قال: هو خطاب من الله ولاةَ أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من وَلُوا أمره في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم، بالعدل بينهم في القضية، والقَسْم بينهم بالسوية. يدل على ذلك ما وَعظ به الرعية في: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرسول وَأُولِي الأَمر مِنْكُم، فأمرهم بطاعتهم، وأوصى الرّاعي بالرعية، وأوصى الرعية بالطاعة).
هذا هو الكمال، أن يقوم كل بما أوجب الله عليه، فيقوم الولاة: بالأمانة والعدل، ويقوم الرعية: بالسمع والطاعة بالمعروف، وعدم قيام أحدهما بما أوجب الله عليه، ليس حجة للآخر أن يترك ما أوجب الله عليه.
فمعصية الرعية لا تجيز ترك العدل فيهم، كما أن وقوع الولاة بالخطأ، لا يجيز ترك السمع والطاعة لهم بالمعروف، فكلهم -الراعي والرعية- آتٍ ربه يوم القيامة فردا، وسيسأل كل عن عمله الذي أمره به، لا عن عمل غيره، ولهذا قال النبي، عليه الصلاة والسلام: (من كره من أمير شيئا، فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتةً جاهلية)، فلم يجعل كرهه لما يأتي به الأمير، مسوِّغا للمنابذة والخروج، وفي صحيح مسلم أن سلمة بن يزيد الجعفي سأل رسول الله، عليه الصلاة والسلام، فَقال: يَا نَبِي اللَّهِ، أَرَأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، وَيمنعونا حَقَّنَا فَمَا تَأْمرنا؟ فَأعرض عنه، ثُم سأله؟ فأَعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة؟، فَجَذَبه الأشعث بْن قَيْس، وقال: (اسمعوا وَأَطيعوا فَإِنما عَلَيهم ما حُمِّلوا وَعَلَيكم مَا حُمِّلتم)، فكما ترى في الحديث لم يجعل منع الحق مسوِّغا لعدم السمع والطاعة.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم)، فحتى مع الأثرة: التي تعني الانفراد بالشيء، والاستبداد به، يأمر النبي، عليه الصلاة والسلام، بأداء الحق الذي عليه، وسؤال الله الذي له، ولم يرخِّص بالتمرد والعصيان.
والمستفيد من العمل بهذه النصوص الشرعية الجميع -الراعي والرعية- لأن الاستقرار والأمن مطلب للجميع، لا يُقدر بثمن، وهو لا يحصل مع المنازعة والمنابذة.
هذا هو دين الإسلام، كما ترى في النصوص الشرعية، لا يقوم على المعاوضة: إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط سخط، ولا على نظرية العقد الاجتماعي التي أتى بها جان جاك روسو وأضرابه، وإنما يقوم على ما تقدم من كلام الله وكلام رسوله، عليه الصلاة والسلام، ولو فعل الناس ما وعظهم به ربهم لكان خيرا لهم، وأشد تثبيتا، ولآتاهم الله من لدنه أجرا عظيما، ولهداهم صراطا مستقيما، برهان ذلك قوله تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا. وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما. ولهديناهم صراطا مستقيما).
وأما النصيحة للراعي والرعية فهي من الدين، بل هي الدين، كما جاء في الحديث (الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، ومعلوم أن الولاة من جنس رعاياهم، إن استقام الرعية استقام لهم ولاتهم، وإن حصل عندهم نقص أو تقصير فولاتهم كذلك، فكان على من أراد أن ينصح غيره، أن يبدأ بنفسه فينصحها ويصلح عيوبها، قبل أن ينصح غيره، لا أن يرى القذاة في عين غيره، ولا يرى الجذع في عين نفسه.
ولهذا لما قال رجل لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه: ما بال الناس اجتمعوا على أبي بكر وعمر واختلفوا عليك؟ فقال رضي الله عنه: لأن رعية أبي بكر وعمر أنا وأمثالي، ورعيتي أنت وأمثالك.
وطريقة السلف الصالح، في النصح والإنكار متوافقة مع الحكمة والموعظة الحسنة، ومثال ذلك: ما جاء في صحيح البخاري أنه لما قيل لأسامة بن زيد، رضي الله عنه: ألا تدخل على عثمان لتكلِّمه؟ فقال: (أترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم؟ والله لقد كلَّمتُهُ فيما بيني وبينه من دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه).
قال النووي -رحمه الله- موضحا مُراد أسامة في قوله: "أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه" يعنى المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ، كما جرى لقتلة عثمان، رضي الله عنه".
قال الشيخ ابن باز -رحمه الله- معلقا على هذا الحديث: (ولما فتح الخوارج الجهال باب الشر في زمان عثمان، رضي الله عنه، وأنكروا على عثمان علنا، عظمت الفتنة والقتال والفساد، الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقُتِل عثمان وعلي -رضي الله عنهما- بأسباب ذلك، وقُتِل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علنا، حتى أبغض الكثيرون من الناس ولي أمرهم، وقتلوه).
وفي رسالة بعثها العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ إلى أحد المشايخ قال فيها: (بلغني أن موقفك مع الإمارة ليس كما ينبغي.. ومثلك إنما منصبه منصب وعظ وإرشاد، وإفتاء بين المتخاصمين، ونصيحة الأمير والمأمور بالسر وبنية خالصة تعرف فيها النتيجة النافعة للإسلام والمسلمين، ولا ينبغي أن تكون عثرة الأمير أو العثرات نصب عينيك، والقاضية على فكرك، والحاكمة على تصرفاتك؛ بل في السر قم بواجب النصيحة، وفي العلانية أظهر وصرح بما أوجب الله من حق الإمارة والسمع والطاعة لها، ولا يظهر عليك عند الرعية، ولا سيما المتظلمين بالباطل، عتبك على الأمير، وانتقادك إياه؛ لأن ذلك غير نافع الرعية بشيء، وغير ما تُعِبِّدتَ به، إنما تُعِبِّدتَ بما قدمت لك ونحوه، وأن تكون جامع شمل، لا مشتت، مؤلف لا منفِّر..).
وكثير من الناس يحصرون معنى النصح لولي الأمر، بالنقد وبيان الأخطاء، والصواب أن معنى النصح لولي الأمر يتضمن خمسة أمور وهي:
أولا: اعتقاد إمامته وولايته، ووجوب طاعته بالمعروف، فمن لم يعتقد أنه إمام فإنه غاش لم ينصح له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية، كما أن من خرج عن الطاعة لهم بالمعروف، وافتات عليهم بالتهييج والثورات، لم يعمل بمقتضى البيعة، وليس ناصحا لهم، كما أن من يستعدي الحكام على الناس، بالتشكيك في ولائهم ووطنيتهم بالظن والهوى، وكأنه هو فقط من لديه السمع والطاعة والوطنية، ليس بناصح للولاة. ثانيا: السعي في تأليف قلوب الناس على ولاة الأمور، وحب اجتماع الكلمة عليهم، وبغض افتراق الرعية عنهم، ومن لم يفعل فإنه غاش ليس بناصح، فكيف بمن يسعى للتنفير عنهم، ويفرح بذلك؟
ثالثا: تنبيههم عما غفلوا عنه من حقوق الرعية، وما يدرأ الشر، ويحقق الخير، بلطف ورفق ولين، وما قد يقع من منكرات بهدوء وحكمة، وبعدٍ عن الصلف واللسانة والفظاظة.
رابعا: القيام بما يُكلِفون به من الأمور بكل صدق وأمانة.
خامسا: عدم غشهم بالثناء الكاذب عليهم تزلُّفًا وطمعا، أو كذبا عليهم وتلونا، ولما قال بعض الناس لابن عمر، رضي الله عنهما، -كما في صحيح البخاري- إنا ندخل على سلاطيننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم؟ أجابهم بقوله: كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم.