الموقف التقليدي السلبي من العقل ليس وليد اللحظة، فلطالما سمعنا من أرباب هذا الفكر الراديكالي التوصيات بتعطيل العقل والتحذير منه، والانكفاء على ما قاله وسطره الأولون، غير أن الفاجعة تصبح شديدة الوقع حين تصدر من أكاديمي مستنير، شاهدته يطالب بتعطيل العقل وعدم إعماله أمام أثر موروث ليس من مسائل العقيدة ولا حتى في السيرة النبوية.

لا شك أن هذا واقع بأثر رجعي، جراء الترسبات المنهجية والخطاب الديني المناهض للعقل البشري الداعي إلى تكبيله وتشريطه، ليكون مجرد جهاز عاطل وظيفته الدفاع عن الموروث دون تبصر ولا تدبر ولا أدنى مساءلة عن صحة الواقعة وإمكانها عقلا وحسّا.

تزخر المؤلفات والدراسات التقليدية القديمة والحديثة بتجريم العقل ومحاصرته واسترابه ومحاربة منتجاته المعرفية والتوجس من ابتكاراته، ولا أدل على ذلك من معارضة تدريس بعض العلوم النظرية واللغة الإنجليزية، ومعارضة استخدام البرقية والهاتف وركوب السيارة، مرورا باللاقطات الفضائية وجوال الكاميرا والقائمة تطول.

طبعا، أعداء العقل لا يمارسون هذا العداء صراحة، بل مخاتلة وتذاكيا تارة باستراب العقل وتارة بتهميشه وتارة بوضعه تحت القيود والتشريط، حيث يصبح عقلا معتقلا في غياهب سجون التقليد والتبعية.

إن ما نشاهده من محاربة الكتاب "علانية" في كل معرض من معارض الكتاب هو جزء من محاربة العقل "خفية"، لأن الكتاب في نظر التقليدي متهم حتى تثبت براءته، والبراءة عند هذا الفكر تتحقق في التقليد والتبعية، أو في عدم مخالفة الثقافة السائدة، على أقل تقدير.

تأليب الرأي العام على المؤلفين والأدباء والمثقفين والمفكرين والكتاب هي أيضا جزء من اعتقال الرأي وتطويع الأتباع والمريدين.

غلاة الراديكالية يستخدمون كل الوسائل المتاحة لكبح جماح انفتاح العقل على التطور والنهضة والعلوم والكتابة والتأليف، حتى في تجريم وتحريم الابتعاث ليُبقي المجتمع منكفئا على ذاته تحت نظرهم، إمعانا في مواصلة قولبته وتطويعه كيفما شاؤوا، وعليه فإن الشخص العائد من الدراسة أو العمل الخارجي تحوم حوله شبهة الانقلاب الفكري، وتظهر ملامح التوجس منه والتحذير من التواصل معه قدر المستطاع.

"نشأ الكهنوت عندما قابَلَ أولُ مُحتالٍ أولَ مُغفّل"!

كان هذا هو جواب الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير عندما سُئل: كيف نشأ الكهنوت؟

إن احترام العقل يكمن في إعماله وليس في إغفاله، كي لا نصبح ضحايا المحتالين الذين ذكرهم فولتير?،? وحضور العقل يكمن في شرف حضور السؤال?، و?لزوم حالة التساؤل المستمر?.?

قال ابن القيم في أعلام الموقعين: "فصل في تغير الفتوى واختلافها، بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد". ليس بالضرورة قبول كل ما قبله السلف أو رفض كل ما رفضه السلف، دون تمريره على فقه الواقع، ويشتد الأمر حين يكون في سياق الاستحالة واستفزاز العقل? واستخفافه مهما تداعت التبريرات الأصولية للدفاع عن مصداقيته على سبيل تقديس الأشخاص.?

وضع العقل جانبا هو مطلب يتفق عليه جموع المضللين والمفسدين من الكهنة والمفسدين للدنيا والآخرة، تجار الدين، تجار الفساد في الأرض وتجار المخدرات على حد سواء?.?

إن تغييب العقل هو تغييب لكرامة الإنسان حتما، وحضور العقل هو حضور لكرامته.

والعقلانية تنشأ من التساؤل المستمر دون شروط ولا قيود ولا حدود. ثقافة العقل تخلق إنسانا مستقل الرأي بعيدا عن ثقافة النسق، يكفل لنا عقولا محصنة من سلطان البائد السائد، وبالتالي يستحيل إغواؤها واهتبال انقيادها خلف أيما دعوة أو دعاة لكونهم أضحوا كائنات ذات عقول فاعلة تفكر باستقلالية عبر السؤال والإدراك والقناعة المحضة.

ختاما، الأمل معقود بأن يخرج الله من أصلاب أعداء العقل من ينصر العقل، ويحطّم صنمية الجهل وتقديس الأشخاص.