رغم أنه يشبه كثيرا من أقرانه، لكنه كان مميزا بأناقة تلفت الأنظار، وتلك النظارة الشمسية زادته سحرا وغموضا.
اعتاد هذا الركن من المكان على ازدحام لافت خلال ساعات النهار، حيث يقف يتابع بصمت مرور كثير من الناس أمامه، يتأملونه لثوان معدودة ويتابعون السير لمشاغلهم، إلا هي، تقف أمامه، تتفحصه، تلفه بأنفاسها، تدقق في تفاصيله بعناية، تتنهد، تشرد عيناها في البعيد، ترتعد أضلعه، يسري دفء لذيذ بين رؤوس أصابعه الممتدة، يهم بمصافحتها، تبتسم له وتمضي.
ابتسامة صاحبه الشامتة تزيد وطء ساعات المساء ليمضي الليل كئيبا مثقلا بدقائق انتظار وترقب مقيت، لنهار يوم آخر لا تخلف موعدها فيه.
ـ ستعود غدا، نعم، نعم، ستقف أمامي مشدوهة معجبة، وتدقق بعينيها الواسعتين في ملامحي، ستبتسم لي ولكن قبل أن تمضي سأحتضنها وأغرف من مسك عبير فمها معترفا بولهي بها.
ـ ستعود، نعم ستعود.
قال، وتحجرت عيناه صوب الطريق في ترقب:
ـ يا لك من أبله لتنتظرها.
تمتم صاحبه إشفاقا، بعد أن تخلى عن شماتته، عندما لاح له اصفرار قسماته ونحول جسده، وهو شاهد على هرولة المساءات خلف الأفق دون أن تشرق شمس حبيبته مرة أخرى منذ ذاك اليوم.
لم تعد عيناه ترقب طريقها ولا قلبه يتسارع لملامح تطل من بعيد تشبهها.
تناساها متشاغلا بولد يبكي تجره أمه من يده بعيدا عن محل الألعاب، وعجوز تتوسل خطوط وجهها المارة لتشتري رغيف خبز.
نبرات صوتها لا يخطئها أبدا، ضحكتها تجلجل خلفه يميزها من بين ضحكات جميع من تجمهر لينتقي هدايا عيد الحب.
ـ هي، أجل، أجل، هي، عادت لقد عادت.
وهذا الرجل المقيت متى ينتهي من وضع ربطة العنق الحمراء حول رقبتي، ستدهشها أناقتي وأنا في بزتي السوداء، وسترسم ابتسامتها كصباح ربيعي فور رؤيتي.
ـ هيا يا رجل أسرع ولفني تجاهها. هيا بالله عليك.
كررها أكثر من مرة، إلى أن بدأت يدا الرجل تلفه جهة الواجهة الزجاجية.
لمحها بطرف عين تسابق اكتمال التفافه حول نصف دائرة تحت قدميه، رفرف قلبه وخفق بجناحيه قبل أن يهوي متناثرا بقع حمراء، يغمض عينيه ويغيب عبر إغماءة أولها طيفها وهي تشير بيدها للرجل الذي معها نحو ربطة حمراء تتدلى على بزة سوداء، ويدها الأخرى تغفو بكف يده.
كفاح قواس