من أهم صفات الإسلام العظيمة أنه دين واقعي، يراعي المصالح والمفاسد، والحال والمآل، ويأمر بالتوكل على الله والأخذ بالأسباب، فالتغيير لا يكون بالطفر، ولا يكون فجأة، بل لا بد من التدرّج، ومراعاة الأحوال، مع النظر إلى القدرة على التغيير. فلم يأمر الإسلام أحدا بأن يموت مجانا، بل القتال في الإسلام إنما يشرع حين لا يكون هناك حل سواه، فهو ضرورة من الضرورات، وليس ترفا من الترف.
وحياة المرء في الإسلام أولى من موته، والأصل الكليّ هو حفظ النفس وعدم الإضرار بها (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)، ولا يهم بعد هذا ما يقوله الشعراء والأدباء.
نعم، يقاتل المسلم في سبيل الله والمستضعفين، وهذا ما لا يخالف فيه أحد، فالقتال في سبيل الله مشروع لصدّ العدوان، ودفع الصائل، ومقاومة الباغي، وهو مشروع كذلك لنصرة المستضعفين والمضطهدين والمقهورين والمظلومين بلا إشكال، وهو مشروع كذلك للوقوف في وجه الفساد في الأرض والمفسدين.
ومن هنا يقدّر هؤلاء الذين يموتون في سبيل الله، والمستضعفين، ومقاومة المفسدين، غير أن القرآن الكريم ينظر إلى الواقع، ويشرع التقيّة دفعا للأذى، وحماية للنفس من الظلم، فليس القتل إذاً في الإسلام هو في سبيل "الأفكار"، بل في سبيل ما بيّنته.
نعم، نهى الإسلام كل النهي عن الإكراه في الدين، ونهى عن الظلم والبغي في الأرض بغير الحق، وعن الطغيان، وإذلال الناس وقهرهم، ولكنه أيضا أمر بحفظ النفس، وقيّد التكليف بالاستطاعة، فما ظنك بما لا تكليف فيه أصلا؟.
ليس في الإسلام شيء اسمه الجهاد في سبيل الأفكار، ولا الموت في سبيل الأفكار، ولا التضحية في سبيل الأفكار، ولا أدري من أين تسرّب إلى العقول فضيلة من يموت في سبيل أفكاره، هكذا على الإطلاق، بل ربما كانت الفضيلة كل الفضيلة هي المصانعة نظرا إلى المصلحة العامة.
بل إن الإسلام يشرع التقيّة، لا في سبيل الأفكار، بل في سبيل الدين ذاته، وفي سبيل الحق والإيمان، فضلا عن الأفكار، وإن الأجر العظيم المترتب على هذا القتل وتلك التضحية إنما يكون بالشروط التي بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم، وإذا ثبت هذا، فلا تهم بلاغة البلغاء ولا فصاحة الفصحاء، ولا ما يتغنى به الشعراء.
فإذا تعرض المرء إلى الضرر وقوعا، أو غلب على ظنه هذا، فقد شرع الله له أن "يتّقي" الأذى ويصانع، وليس في هذا بأس، فتجد الله تعالى يقول في القرآن الكريم: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان"، ولا يخفى على القارئ قصة عمّار بن ياسر رضي الله عنه، حين اشتدت عليه وطأة العذاب من أجل أن ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنال منه، ثم عذبه ضميره فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن عادوا فعد.
وفيما ورد عن السلف قصص وأحاديث عمل بعضهم فيها بالتقيّة، حين يكون إكراها، فما حد الإكراه؟ أورد الإمام القرطبي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: "ليس الرّجل آمنا على نفسه إذا أخفته أو أوثقته أو ضربته". فالضرب والوثاق بل التخويف تدخل كلها فيما يصح أن يسمّى "إكراها"، وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلما به"، فما الظن بما هو فوق ذلك؟ وقال الحسن البصري: التقية جائزة إلى يوم القيامة، إلا أن الله تعالى ليس يجعل في القتل تقية. أي: إن من يقوم بالتقيّة لا يجوز له قتل أحدهم، حتى يحمي نفسه لا لشيء إلا من أجل التقيّة. وقال الإمام النخعي: القيد إكراه والسجن إكراه.
فما الظنّ بما فوق ذلك من العقوبات؟
غير أن الاتقاء خشية الظلم والضرر شيء، والمجاملة والمصانعة لجني المكاسب، والتقرّب من الظلمة شيء آخر، وليس حديثي في هذه المقالة عن المجاملات الكاذبة، والمصانعات الرخيصة.
وما سبق من نصوص العلماء وأقوالهم إنما هو في الحق، لا في مطلق الأفكار، وما أراه أن عبارة "مت في سبيل أفكارك"، ليست عبارة صائبة على إطلاقها، فالأفكار منها ما هو حق ومنها ما هو باطل، ومنها ما له قيمة، ومنها ما ليس له أدنى قيمة.
وليس في الإسلام فضيلة في الموت إلا إذا كان في سبيل الله والمستضعفين ورفع الظلم عنهم وتحقيق العدل.