حينما رأى ولي الأمر أن من المصلحة دمج التعليم العالي مع التعليم العام ظننا أن هذا الدمج سيقود إلى مرحلة جديدة من التكامل والتنسيق، واستفادة كل مرحلة من إمكانات المرحلة الأخرى، من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، انتقال بعض المعلمين المميزين من صغيري السن إلى الجامعات على وظائف معيدين، وسهولة استفادة التعليم العام من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات بصفة خبراء ومستشارين في ميادين تخصصاتهم، بما في ذلك الاستفادة من إمكانات الجامعات وخبراتها في تنظيم المؤتمرات والندوات، وبعض المناشط العلمية التي تمرّست فيها، وتوحيد مرجعية التعليم بجميع مراحله وحصرها في شخص واحد يكون مسؤولا أمام ولي الأمر سلبا أو إيجابا، مع الإبقاء على نائب لمعالي وزير التعليم للتعليم العالي للاختصاص، ونائب آخر لمعاليه للتعليم العام، وهو (أي الوزير) يقف على سلم الهرم القيادي للتعليم بشقيه العام والعالي ليمسك بالدفة، ويقود السفينة إلى بر الأمان.
ولكن يبدو أن شيئا من ذلك لم يطبق على أرض الواقع بالصورة التي يطمح إليها الوطن وأبناؤه، فنيابة التعليم العالي ألغيت، وافتتاح الجامعات في المحافظات المستحقة يكاد يكون في حكم المتوقف، وتمديد الخدمة لبعض أعضاء هيئة التدريس المميزين لا يتم إلا بالقطارة، وبعد إجراءات وتعقيدات لا تشجع كثيرا من طالبي التمديد المحبين لجامعاتهم على البقاء فيها، والأمر نفسه يتكرر مع استقطاب بعض الذين تقاعدوا بقوة النظام ممن يحملون درجة الأستاذية، ولهم مكانتهم العلمية في جامعاتهم بتثبيتهم على وظيفة أستاذ غير متفرغ التي نص عليها نظام الجامعات.
كل هؤلاء وأولئك من قدامى أعضاء هيئة التدريس المخلصين لجامعاتهم لا يحسن التفريط فيهم من قبل أي جامعة تحترم نفسها، وتحرص على مصلحتها، وهذا أمر تفرضه التقاليد والأعراف الجامعية على مستوى العالم، فالذين يرغبون في تمديد الخدمة من المميزين الأكفاء ممن يحملون درجة أستاذ مشارك فما فوق، هؤلاء يعدّون -في نظري- مكسبا لجامعاتهم، لأنهم لا يكلّفون الدولة أعباء مالية أخرى غير رواتبهم، خصوصا أن تمديد الخدمة وحتى رفع سن التقاعد النظامي أصبح في وقتنا الحاضر مطلبا ينادي به كل خبراء الاقتصاد للتخفيف من الأعباء المالية على صناديق التقاعد التي تعاني من ضغط كبير في مدخراتها، فضلا عن حاجة جامعاتهم إلى خدماتهم في التدريس والإشراف العلمي، وانتقال الخبرة منهم إلى تلامذتهم من الأساتذة المساعدين الذين سيخلفونهم في حمل الراية، واستمرار المسيرة، والحفاظ على التقاليد الجامعية، والارتفاع بمستوى جامعاتهم العلمي، فكلما كانت الجامعة فيها نسبة من الأساتذة والأساتذة المشاركين كان ذلك يصب في خانة تميزها وعلوّ تصنيفها. وكان التفكير في رفع خدمة أعضاء هيئة التدريس إلى سن الخامسة والستين قاب قوسين أو أدنى من التطبيق في وقت ليس بالبعيد، وأذكر في هذا الخصوص أنه وصلنا في جامعة الملك سعود استعجال من وزارة التعليم العالي بأخذ موافقة الجامعة على رفع خدمة عضو هيئة التدريس إلى سن الخامسة والستين، ويمكن للراغب منهم التمديد إلى سن السبعين، ولكنّ شيئا من ذلك لم يتم، ولم نسمع عنه حتى اللحظة.
أما الأساتذة غير المتفرغين (a professors emeritus) فذلك مما يشرف كل جامعة أن يكون من بين أعضائها من هم على هذه الرتبة الشرفية، وهي دلالة على عراقة أي جامعة تتيحها لكبار أساتذتها بموجب المادة (96) من نظام الجامعات. وغالبا ما يكون الأساتذة غير المتفرغين من ذوي الرتب العلمية العالية، وممن لهم تلامذة ومحبون في أقسامهم، ويقع على عاتقهم عبء التدريس في المراحل العليا من الجامعة، والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه، ولا يُكَلّفون بأي عمل إداري في جامعاتهم، ويُعيّنون على المربوط الأول للمرتبة التي كانوا عليها قبل تقاعدهم، وهو مربوط متدنٍّ، لذلك فهم أقل تكلفة على الدولة من استقدام متعاقدين أجانب يحلون محلهم، ويكونون مع عوائلهم عبئا على الخدمات، فضلا عن تحويلهم جزءا كبيرا مما يتقاضونه من مرتباتهم بالعملة الصعبة إلى بلدانهم. وفي اعتقادي أن عدم استقطاب القادرين على العطاء من الأساتذة المتقاعدين لتشجيعهم على الاستمرار في الخدمة في جامعاتهم يُعدّ خسارة كبيرة على الجامعات، وعلى الوطن بعامة.
ويتصل بأعضاء هيئة التدريس في الجامعات تلك الحملة الشعواء التي تشنها بعض الصحف فيما يتعلق بعدد أعضاء هيئة التدريس التي تتعاقد معهم بعض الجامعات، وتطالب باستعاضتهم بحملة الدكتوراه من السعوديين الذين يَعُجّ بهم سوق البحث عن عمل في بلادنا، على حد زعم تلك الصحف، وما يشاع من أن تشدد الوزارة تجاه تمديد الخدمة لأعضاء هيئة التدريس المتميزين، أو استقطاب بعضهم بصفة أساتذة غير متفرغين مرده إلى تلك الحملات الصحفية. وما أعرفه شخصيا أن الجامعات لا تتعاقد مع غير السعوديين إلا بعد التنسيق مع وزارة الخدمة المدنية، وبعد التيقّن من عدم وجود من تنطبق عليهم الشروط من أبناء الوطن.
ونحن جميعا مع السعودة، ومع تسلح المواطن السعودي بأعلى الدرجات، واقتحامه جميع ميادين التخصصات، وفتح أبواب الجامعات لكل من تحتاج إلى تخصصه منهم، ولكن ينبغي ألا يغيب عن بالنا أن احتياج الجامعات إلى متعاقدين أجانب تحكمه التخصصات والدرجات العلمية، فبعض الجامعات تحتاج إلى أساتذة وأستاذة مشاركين لكي يتمكنوا أو يمكنوا من الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه، أو الاشتراك في مناقشتها، ولا أظن أن سوق العمل في المملكة فيه من حملة الدكتوراه من هم بدرجة أستاذ أو أستاذ مشارك، أو حتى أستاذ مساعد متميز في تخصصات تحتاجها الجامعات.