تقول بعض الروايات إن علي بن الجهم، قدِم من البادية على مجلس الخليفة العباسي المتوكل، ثم أنشد بين يديه مادحا:
أنت كالكَلب في حِفاظك للود، وكالتَيس في قِراع الخُطوب
أنت كالدَلو لا عدمناك دلواً، من كبار الدِلا كَثير الذَنوب
وبالرغم من أنه مدح الخليفة، إلا أن انتقاءه الكلمات أغضب جلساء الخليفة، وأشاروا عليه بتأديبه، إلا أن المتوكل كان أحكم من ذلك. إذ لمح شاعرية ابن الجهم وأن قسوة ألفاظه ليست إلا انعكاسا لقسوة بيئته، فأمر له ببستان جميل ليقيم فيه، ثم أرسل إليه بعد زمن، فانعكست البيئة الخضراء على كلماته رقة وعذوبة حين قال:
عُيون المها بين الرصافة والجِسر، جَلَبنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري
أعَدن لي الشَوق القديم ولم أكُن، سَلوتُ ولكن زِدن جَمراً على جَمر
يقول ابن خلدون، إن لبيئة الإنسان أثرا حتميا على طبائعه وسلوكه، وذلك قبل أن يشهد التقدم العلمي الذي مكّن إنسان اليوم من تغيير بيئته عبر التشجير المستدام.
وامتدادا لتجربة المتوكل ونظرية ابن خلدون، وجد باحثون في مدينة شيكاغو، أنه كلما ازداد التشجير في منطقة سكنية، انخفض مستوى الجريمة والسلوكيات العدائية فيها، وذلك لأسباب منها أثر الأشجار على النفس والعقل.
ومن المعلوم أن للأشجار دورا في مكافحة التلوث، إلا أننا لا نجد عناية ملحوظة بالتشجير على مستوى المنشآت العامة والخاصة، بينما ترزح بلادنا تحت وطأة التلوث. فبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية فإن السعودية هي خامس دول العالم في معدل تلوث الهواء.
وفي حين نستثمر عشرات المليارات سنويا لمواجهة الطلب المتزايد على الكهرباء في ساعات الذروة، فإن الدراسات تشير إلى أن أشجار الظل (كبيرة الحجم)، المزروعة في المكان المناسب، قد تخفض استهلاك التكييف من الكهرباء في المباني (والمدن إجمالا) بنسب تتراوح بين 7% و30%. إن هذه المنفعة (عدا منافع الأمن والصحة)، تتجاوز أي تكاليف تترتب على التشجير.
إن فوائد التشجير لا يمكن حصرها، بيد أن هناك من يعارض التوسع في التشجير لأسباب، أهمها: ندرة المياه، والحساسية من حبوب اللقاح، والضرر على البنية التحتية، وحجب الرؤية.
بالرغم من ندرة المياه إلا أن هناك أشجارا قادرة على تحمل بيئتنا، فها هي تقف في صحارينا شامخة دون عناية، إذا سلمت من أيدي العابثين، كما أنه يمكننا تعظيم استفادتنا من المياه عبر إعادة تدويرها، إذ لا تخلو المباني من مياه مستخدمة وصالحة للري. إضافة إلى أن البلديات تنفق مبالغ كبيرة لمعالجة مياه الصرف الصحي حتى تصلح للري، قبل أن تحدث بها المستنقعات، أو ترميها في البحر.
ويرفض البعض التشجير بسبب الحساسية من حبوب اللقاح. وبالرغم من حقيقة هذا الأمر للبعض، إلا أن منافع التشجير لهم ولبقية المجتمع تتجاوز هذا الأثر بكثير. ولذلك، فإن دولا مثل بريطانيا، لم تحارب الأشجار، بل تكفلت بتوزيع مضادات الحساسية بالمجان.
أما ما يتعلق بالأثر على البنية التحتية وحجب الرؤية فإن الخبراء يؤكدون، ونرى نحن، أنه يمكن تحييد هذا القلق إذا ما تم انتقاء النوع المناسب للمكان المناسب، وتمت الزراعة بشكل سليم.
ولا يفوتني أن أشير إلى أن منافع الشجرة تتزايد مع تزايد حجمها. وإذا علمنا أن هناك تكلفة للتقزيم فإننا لا نقطع أرضا ولا نبقي ظهرا عندما نقزم الأشجار.
اليوم، تزخر معظم مناطق المملكة بالجمعيات المختصة والناشطين البيئيين الذين تراكمت لديهم الخبرة والمعرفة. ولذلك يجدر بالحكومة أن تعقد معهم ورش العمل، لتبحث معهم مكامن القلق من التشجير وكيفية التغلب عليها، وتستفيد من خبراتهم لصياغة إستراتيجية مستدامة للتشجير على مستوى المملكة، على أن تكون نقطة البداية في إعادة صياغة القرارات والتشريعات في وزارة الشؤون البلدية والقروية، والمتعلقة برخص البناء، وسياسات التشجير (التقزيم حاليا) في الشوارع.
كما يجدر بنا تمويل الأقسام العلمية، والجمعيات المختصة لعمل أبحاث تساعدنا على مواجهة تحدياتنا بصورة مستدامة.
فبينما ننفق المليارات سنويا لزيادة إنتاج الكهرباء، فإننا لا نشكل فرقا بحثية تجمع بين المختصين في كليات الزراعة والهندسة، ليبحثوا لنا عن حلول قابلة للتطبيق في بيئتنا. إننا عندما نختار القوي الأمين، وندعمه بالمال، ونحرره من قيود البيروقراطية، وندرك أن التجارب مبنية على الخطأ، فإننا لن ننتظر طويلا حتى نرى النتائج.
مثلا، حاول من أعرفه الحصول على اعتماد لبيع مادة لياسة عازلة للحرارة، وطلبت منه شركة الكهرباء إثبات ذلك بالتجربة قبل الاعتماد. فقام بإنشاء غرفتين متماثلتين، واحدة بالمادة، وأخرى بدونها، وأثبت أن استهلاك التكييف للكهرباء يقل في الغرفة المكسوة بالمادة، وبذلك اعتمدت المادة. ربما كلفت هذه التجربة أقل من 100 ألف ريال. هذا هو البحث بشكل مبسط ودون مختصين. وإن ما مكّن هذا التاجر الفذ من إجراء التجربة، هو وفرة المال، ووضوح الهدف والحافز، والتحرر من القيود البيروقراطية. أفلا نمكّن خبراءنا؟
ختاما، حثنا ديننا الحنيف على رعاية الأشجار، وأثبت لنا الخليفة المتوكل انعكاس البيئة على الفن، ولاحظ ابن خلدون الأثر على الطبائع والسلوك، وما زال علماء اليوم يبينون لنا منافع التشجير على مختلف الأصعدة، ويعالجون لنا مواطن القلق. ألم يئن لنا أن ننصت لنداءات تتردد عبر القرون؟