لا جديد في الحديث عن خطورة الوجهة الأيديولوجية التي يمثلها دونالد ترمب، فقد تردد الإعلان عنها، وتوصيفها، في الفكر السياسي والحقوقي، ولدى المحللين والمراقبين في أميركا والعالم منذ سباق الترشح للانتخابات، وما زال يتجدد مع القرارات التي أخذ يواليها بعد إمساكه بزمام السلطة.

وهي خطورة لم يقتصر رصدها والتحسب لها على أقطار العالم في مقابل أميركا، ولا على من استشعروا فيها فاشية وعنصرية وتمييزا ضدهم، وفقا لتصنيف ديني كالمسلمين في مقابل المسيحيين، أو تصنيف عرقي وإثني كالسود أو اللاتين أو الآسيويين أو الملونين إجمالا في مقابل البيض، أو جنسي كالمرأة في مقابل الرجل، بل كان رصدها والتحسب لها -أيضا- من قبل بعض البيض المسيحيين الرجال في أميركا نفسها.

لكن ترمب، هنا، ليس فردا، بل خطاب يستند إلى قوة في أميركا، هي القوة التي انتخبته وما زالت تؤيد وجهته وتباركها. وهو -أيضا- فكر لم يبتدئه ترمب، وإلا لم يكن لأحد أن يفهمه أو يدرك خطورته. إنه فكر موجود في العالم وفي التاريخ، وترمبية ترمب من وجهة هذا الفكر ليست شذوذا، بل هي انعكاس يرى فيها ذلك الفكر -من وجه- حُلمه وأمنيته: صورة "البطل" الأميركي أو الغربي أو الوطني، أو يرى -من وجه مقابل- صورة العدو "الصليبي" أو "الاستعماري" أو "الرأسمالي"، أو -من وجه أكثر اتساعا- صورة "الفاشي" "العنصري".

الجديد هو تبلور رؤية تحمل ما يشبه اليقين أو الأمل، من موقع مزاوج أو معاكس للموقع الذي لا يرى في ترمب إلا الخطورة، وهي رؤية المنفعة فيه للعالم عامة وللمسلمين ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.

وتتمثل تلك المنفعة في القضاء على الإرهاب المجسَّد في تنظيمي "داعش" و"القاعدة" وما يتفرع عنهما أو يؤسس لهما من الفكر المتطرف، وفي لجم إيران عن توسعها وإثارتها القلاقل في دول الجوار.

نعم، كانت وعود ترمب الانتخابية، محمَّلة بالوعيد للتطرف الراديكالي المنسوب إلى الإسلام، ومشحونة بالغضب على إيران والتوجس منها، ولكن الجديد في وجهة الحساب لمنفعة ذلك، هي في تبلور ما يشبه اليقين أو الأمل بشأنها، والتخلص من الحساب لخطورة "الترمبية" أو التقليل منها.

والأحرى أن ما يتراءى يقينا أو أملا في قضاء ترمب على الإرهاب، وفي إيقاف إيران عند حدها، أقرب إلى الأحلام والأماني منه إلى اليقين، وأدعى إلى التشاؤم منه إلى الأمل. وهي هكذا خطورة مضاعفة لترمب، لأنها خادعة عما ستفاقمه وجهته من خطورة.

وأظن أن أوضح دليل على ذلك هو في افتقاد المنطق والحساب العقلاني الذي يبني وضوح النتائج وتكشُّفها للعيان على المقدمات السليمة لبلوغها. وهذا ملمح بارز في مواقف وقرارات لترمب ما زالت غامضة ومحيِّرة للمحللين في أسبابها أو في النتائج التي يريدها أن تؤدي إليها، كما في قراره منع مواطني 7 دول إسلامية من دخول أميركا، بزعم الحفاظ على الأمن، وتفادي الهجمات الإرهابية!

فإذا قلنا إنه صادق في إرادته القضاء على الجماعات الإرهابية المنسوبة إلى الإسلام، واجتثاث تنظيم داعش على رأسها: فهل يكفي العمل العسكري؟! وكم سيمكث في الحرب على الإرهاب؟! كيف تقضي الحرب على فكر يعشعش في الصدور، ويتوالد، وينتشر؟! وهل يميز ترمب حقا بين الإسلام والإرهاب؟!

وإذا قلنا إنه صادق في لجم إيران وكف شرها، فهل يعلم أن اتفاقها النووي الذي يلوِّح بتمزيقه، اتفاق أممي؟! وماذا أبقى ترمب من احترام وود بينه وبين منظمات وكيانات دولية أسرف في مهاجمتها وانتقادها واستثارتها ضده، وهي ركائز النظام الدولي، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي والصين؟! هل يمكن له لجم إيران من دون إرادة أممية؟! أما إذا غامر -وهو رجل مغامرات- بالحرب على إيران، فكيف يختصها لوحدها من دون أن تتناثر النار في المنطقة أو تشتعل من الصين وكوريا الشمالية إلى باب المندب؟!

الصفة الأساسية لترمب التي تتفرع عنها وتتجاوب معها صفات فكره ومواقفه وعلاقاته هي "الأنانية"، وقد قيل: "كل الشرور مصدرها الأنانية". وليست أشكال التعصب العرقي والديني والشوفيني سوى أشكال ومستويات من الأنانية التي تجاوز التمركز حول الذات، وتتخطى معيشة المرء لذاته الفردية وحسب، إلى التمركز حول عنصره وفئته العرقية والدينية والوطنية.

والصفة الأساسية للجماعات الإرهابية وللفكر اليميني المتطرف وللنظام الإيراني وما يشبهه، هي الصفة نفسها: التمركز حول الذات الأيديولوجية والوطنية والعنصرية، ومعاداة الآخر، والتعصب ضده، والتعالي عليه، واستصغاره. ومؤدى هذه الصفة -على أي حال- نوع من العمى، فكل مجتمع أو أفراد يتصفون بالتعصب والعنصرية، محتبَسُون في عمى ذهني يعوقهم عن الاغتناء بقيمة التعدد والاكتشاف للآخر واحترام حقه في الاختلاف.

لم تكن انتقادات ترمب العديدة للأجناس الأخرى، والانتقاص منها، بمن في ذلك النساء، منذ حملته الانتخابية، أقل في الدلالة على عنصريته من إعطائه أفضلية لقبول اللاجئين المسيحيين (ربما كان الأمر أقل دلالة لو أنه أضاف إليهم اليزيديين مثلا)، واتهامه سلفه أوباما بمحاباة المسلمين. وهي عنصرية مدانة من الأميركيين أنفسهم، منذ أصدر 50 من خبراء الأمن القومي الجمهوريين في أغسطس الماضي، بيان رفضهم ترمب، لأنه "يضعف السلطة الأخلاقية للولايات المتحدة... ويفتقر إلى المعرفة بالدستور والقوانين والمؤسسات الأميركية والإيمان بها، بما في ذلك التسامح الديني وحرية الصحافة واستقلال القضاء".

إن المعركة مع الجماعات الإرهابية المنسوبة زورا إلى الإسلام، ومع الدول الفاشية التي تهدد بمروقها من ربقة المواثيق الدولية أمن العالم، هي معركة أخلاقية قبل أن تكون حربا دموية: معركة لفضح ظلاميتها ودمويتها وعداوتها للإنسان، ولن يكون بوسع أحد أن ينتصر عليها وهو يتذرع لقتالها بالمعاني نفسها التي تتذرع بها، معاني العنصرية، والإقصاء للآخر، والتعالي عليه، بل إن حربا تنضح بتلك المعاني الضيقة كفيلة بأن تفجّر بركانا شاملا من الأحقاد تمكنت الإنسانية في أجزاء عديدة من العالم من مخاتلته ومجاوزته ونسيانه، أو كادت.

إن أميركا الآن تعود مع ترمب إلى أسوأ ما حملته ذاكرة التاريخ عن القوة الفظة المسكونة بأطماع الرجل الأبيض وتعاليه، القوة التي لا حساب لديها للأخلاق ولا للحرية ولا للكيانات الدولية التي تسهم في حفظ التوازن. وقد نشهد بشكل أقرب إلى اليقين إثارة أميركا للحروب التي تتكسّب من ورائها، وتؤكد مسيس الحاجة إليها، كما سنشهد مزيدا من تغول إسرائيل، وبعض حبكات الانقلاب ضد الحكومات التي لا تعلن الإذعان، وعواصف أخرى يعلم الله وحده ما تجره على منطقتنا وعلى العالم من أذى.

أما أكثر ما يستدعي منا إمعان النظر فيما يخص واقعنا العربي الإسلامي، في هذا السياق، فهو مآلات التطرف الذي انتسب جُرماً إلى ديننا العظيم، وأخذ يمارس باسم الجهاد الإرهاب على الأبرياء. لقد أسهم هذا التطرف في صعود ترمب، وها هو يبرر له استنزاف المنطقة والتسلط عليها، مثلما برر التحصين لطاغية كبشار والحماية له.