سأتحدث عن تجربة شخصية أثناء حضوري دورة في العاصمة العزيزة، والسبب هو أنها من التجارب التي يتقاطع فيها الخاص بالعام، فلا أصدق من الكتابة عن واقع عايشته للتو. هي تجربة عن تنقل مواطنة لوحدها، مضطرة، في ربوع وطنها، ومدى سهولة أو صعوبة ذلك عليها. ومع أن السفر كان لغرض علمي متعلق بوظيفتي كأستاذة وباحثة، إلا أنه يمكن القياس عليه في حال كان السفر لغرض آخر كالسياحة أو الزيارة أو العلاج أو الدراسة وغيرها.

يبدأ الأمر من مطار جدة الدولي، الذي لم أصادف مثله في بدائيته المزمنة في كل رحلاتي الخارجية، باستثناء مطار ماليه في المالديف ومطار كولمبو في سريلانكا. فالتنقل في هذا المطار وإنهاء إجراءات السفر هو من ابتلاءات الحياة الدنيا، التي ترجو الله أن يكفر بها عنك ذنوبك. ويلوح في الأفق مطار جديد، كان يفترض أن يفتتح منذ بضعة أعوام، والخوف من أنه بعد هذا الصبر تتغير المباني وتظل الإدارة وموظفوها على ما هي عليه.

في الطائرة ستستمتع بعرض مجاني اسمه: لعبة الكراسي! التي أرى أنه من الممكن التقليل منها بالسماح وقت اختيار المقعد بتحديد جنس الراكب، لعل وعسى نقلل من الوقت المستهلك لحل هذه الإشكالية التي لا نراها على خطوط أخرى بهذا الزخم.

تصل إلى الرياض، تكون قد حجزت سيارة سلفا عبر الفندق بكلفة عالية، هي ضريبة تقبل بها امرأة تريد رحلة آمنة ومريحة في بلد لا يعتبر تنقل المرأة وحدها فيه أمرا مستحبا. تصل للسيارة الفاخرة لتجدها (مكلبشة بالحديد)، ويا للمفاجأة السعيدة! أما السبب، فلأنه في الصالة الداخلية الجديدة في المطار هناك لوحة -بحجم الآدمي- مكتوب عليها، بالعربية والإنجليزية: موقف مخصص للمعاقين غرامة 200 ريال! فما الذي جعل السائق يتجاهلها بهذا الاستهتار: الجهل؟ أم قلة التدريب؟ أم الاستهتار بأن المخالفات من هذا النوع ليست جدية هنا؟ في كل الأحوال ستقضي بعدها 20-30 دقيقة في انتظار حل المشكلة ودفع المخالفة.

الرياض مدينة جميلة ونابضة بالحياة. فمع أني لم أتجول في كافة مناطق الرياض، لكن الطرق التي تجولت فيها كانت واسعة ونظيفة وسليمة، لن تلمح وأنت خارج من المطار مناظر "الورش الخربة" إياها، بل مبان حديثة وجميلة مثل جامعة الأميرة نورة، ومركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية.

الفندق الذي اخترته كان جيدا، من فئة الخمس نجوم، سعرا وتصنيفا، لكنه، كبقية فنادق المملكة التي جربتها، يفتقد تلك اللمسة السحرية، وتلك العناية المتقنة بالتفاصيل التي تليق بفنادق هذه الفئة، التي نجدها، ليس في أوروبا وأميركا فحسب، وإنما بشكل أفضل في الخليج وآسيا. ومن الأشياء التي استغربتها في الفندق أنه باستثناء موظف الأمن، وموظف واحد ألمحه لماماً في الاستقبال، فإن كل من يعمل في هذا الفندق هم آسيويون ومعهم موظف استقبال عربي، ومدير الفندق عربي كذلك. نتحدث عن نجاح سعودة الخضار أليس كذلك؟

الوضع نفسه سيتكرر في البوابة الاقتصادية، وهي منطقة اقتصادية تضم عددا كبيرا من الشركات الأجنبية، خاصة العاملة في مجال التقنية، حيث لا تكاد تجد سعوديا إلا كموظف أمن يتعامل مع الداخلين للبوابة بصرامة شديدة (كأنها ثكنة عسكرية)، أو كموظف استقبال طارئ، فيما يعج المكان بالموظفين من كل جنس ولون من الشرق والغرب، مع تواجد آسيوي كثيف. نتحدث عن نجاح سعودة محلات الجوال أليس كذلك؟

ونأتي لأكبر صعوبة واجهتني كامرأة في هذه العاصمة الواعدة، وهي المواصلات. لأول مرة في حياتي أجد نفسي مضطرة لركوب سيارة أجرة في المملكة لوحدي (لسبب ما لم أقتنع باستخدام شركتي أوبر وكريم إلا في نهاية الرحلة). وأيضا أصنفها من ضمن أسوأ تجارب التاكسي في العالم، لا ينافسها في ذلك إلا تجاربي في إسطنبول قبل ست سنوات. هل نتحدث عن السيارات القديمة المهترئة من الداخل والتي ستأخذ نفسا عميقا حتى لا تضطر لاستنشاق رائحة المسك التي تفوح منها؟ أم عن سائقين يفتقر معظمهم للتدريب على كل شيء؟ أظنها من التجارب القليلة التي مررت بها والتي لا يعرف السائق فيها معظم شوارع المدينة، فتضطر لتوجيهه عبر خرائط جوالك لتصل إلى الفندق أو أكبر مركز تجاري في الحي. ناهيك عن عدم وجود طريقة لمعرفة ما إذا كانت التسعيرة التي يمنحك إياها مستحقة أم غير مستحقة؟! فلا يوجد عداد ولا غيره.

من جانب سياحي، تعاني الرياض كما بقية المدن السعودية، من موضوع إقفال المحلات التجارية لأداء الصلاة، والمشكلة ليست في الإقفال نفسه، ولكن في أن تستغرق الصلاة 10 دقائق ويكون الإقفال 40 دقيقة، بل يسبق الإقفال الأذان! إذ اعتذر منا النادل في أكثر من مطعم عن خدمتنا إلا بعد صلاة العشاء التي كان متبقيا على رفع أذانها أكثر من ربع ساعة، وهو أمر سينفر أي زائر.

كانت تجربة جميلة، خاصة مع الكرم غير المستغرب من أهل الرياض الكرام، رغم عدم وجود سابق معرفة، فتحية للزميلة العزيزة من جامعة الإمام التي ساعدتنا كثيرا. وستنتهي الرحلة بشكل جيد إلا من موقف مزعج فيه الكثير من قلة الاحترام قام به اثنان من موظفي الخطوط السعودية في المطار، وللأسف لم أجد حولي من أستطيع أن أتقدم بشكوى له، وهذا يثبت ما ذكرته آنفاً: تستطيع تغيير المبنى.. لكن كيف ستغير أسلوب وطريقة البشر دون تدريب مستمر ومكثف؟

بلادنا لا تفتقر للكفاءات، ولا للتنوع الثقافي، ولا للتميز الجغرافي أو حتى المناخي، فلدينا الصحاري والشواطئ والمدن والقرى، ولدينا الإمكانات المادية والمعنوية التي يمكن أن تجعل بلادنا منافسا قويا للسياحة في المنطقة، وتجعلنا -نحن- راغبين في زيارات مناطقها المتنوعة في إجازاتنا القصيرة، في حال توفرت المقومات الأساسية التي نجح بها غيرنا. هذه المقومات تشمل: الارتقاء بشبكة المواصلات الجوية وكافة مرافقها وموظفيها، وشبكة المواصلات البرية وكافة مرافقها وموظفيها، والارتقاء بالمنظومة السياحية عبر رفع مستوى الفنادق والمراكز التجارية وأماكن الترفيه، ومعاقبة من لا يلتزم بالجودة والمعايير بشكل صارم. فلا أظن ذلك السائق الذي دفع الغرامة المؤلمة سيقف مرة أخرى في موقف المعاقين. وأخيرا، قليل من المرونة الثقافية.. التي تنفع ولا تضر.