قبل أعوام مضت التقيت بطبيب عربي ماهر ذي سمعة طيبة جداً، الطبيب مرهف الحس، يشع الذكاء من عينيه، بدا للجميع أنه رجل صاحب دين وخلق والتزام رغم أنه حليق اللحية، ويرتدي أفخر القمصان والكرافيتات لأشهر الماركات العالمية، تحدث عن مراهقته في مدينته البحرية وتربيته الصارمة من قبل جدته التركية التي كانت تصر على تحفيظه القرآن الكريم، قبل أن يغادر إلى الولايات المتحدة ويحصل على الجواز الأزرق، الطبيب الذي عاش في كنف أسرة ذات مستوى معيشي لائق، يتحدث الجميع من دون استثناء على أنه من الأسر المتصالحة مع ذاتها من دون زيف، ذات مرة قام الطبيب بترتيل آيات قرآنية طويلة ليظهر أمامي بأنه الرجل المسلم العربي، الذي لم يتخل عن قناعاته الدينية، رغم انفتاحه على عالم لا يفكر سوى بالركض واللهاث وراء المال، إنه يؤمن بأن الحياة الأميركية رغم أنها ساحرة جداً ولكن لا تزال باقية على حماقتها، كنت أستمع لهُ بذهول وإنصات، لا شك أنني كنت أعتقد بأنه يدين إلى أميركا بالكثير، على الأخص أن هذه الجنسية جعلته يحصل على مرتب خيالي نتيجة للون جوازه وليس فقط لأنه ماهر في أداء عمله كطبيب، وللأسف هذا هو الترتيب الوظيفي لدينا، الجنسية تأتي قبل أي شيء آخر، وخلال دقائق أظهر هاتف جواله وأطلعني على صورة ابنه الذي ولد وعاش طيلة حياته في الولايات المتحدة الأميركية، حتى أنه لا يتقن اللغة العربية لكنه يستطيع أن يفهم ما يقوله والداه من دون أن يملك القدرة على الرد إلا باللغة الإنجليزية، الشاب العشريني ظهر بشعر نحاسي اللون ولحية كثة، وقد فوجئت بعد أن كال الطبيب سيلا من الشتائم إلى أميركا، أن ابنه قد قرر السفر إلى ماليزيا لتعلم أحكام تجويد القرآن.

الصدمة التي باغتتني حينذاك أن الطبيب أنجب أبناءه الذكور الثلاثة في أميركا، قد أحبوا الدين الإسلامي وتباهوا به أمام أقرانهم من دون خشية من أي منظمة أو لجنة تحقيق أو اعتقال من قبل الشرطة، ولاحقاً التقيت بابن الطبيب وقد ذهلت من فرط محبته الشديدة جداً نحو الدين الإسلامي، والتحاقه بمعهد ديني لعام أو يزيد في ماليزيا لتعلم تجويد القرآن، المسلمون في أميركا أو فرنسا أو حتى ألمانيا وهولندا، وعلى الأخص الذين ولدوا في هذه البلاد لا يخشون من إظهار شكلهم الديني بالصورة التي يرغبون بها، فتجد سائق التاكسي في مدينة كان على سبيل المثال وقد أطلق لحيته، وتقف في طابور لمطعم ماكدونالدز في شارع الشانزليزيه وفي وقت متأخر من الليل، وتجد أمامك فتاة شابة ترتدي الخمار الإسلامي من دون أن تغطي وجهها، ولكأنها بشموخها ونظراتها الثاقبة تقول "من يجرؤ على التقدم نحوي فليجرب ما سيحدث لهُ"، تشعر تماماً بثقتهم التي لا يمكن لك أن تغمض عينيك عنها، إنهم يدركون تماماً أن القانون في صفهم، طالما أنهم لم يرتكبوا أي جناية ضد المكان الذين يحملون هويته.

ورغم أنني أحترم كل مسلم يعيش بثقة مطلقة في البلاد الأجنبية، من دون خوف من إطلاق لحيته أو ارتدائه للجلباب، إلى جانب ثقة المسلمة وهي تمارس حياتها الطبيعية جداً، غير عابئة بأي نظرة أو لوم نتيجة ارتدائها للحجاب الإسلامي، إلا أنني لم أستطع أن أحترم الطبيب رغم تعامله الجيد جداً معي، فقد أخفق حينما اعتقد أنني سأصفق لشتمه الوطن الذي أعطاه الجواز، وحقق له مكانة لا يستهان بها وهو يجول بين مطارات دول العالم، ويحظى باحترام وتقدير لا نظير لهُ نتيجة لجنسيته الثانية وليست الأولى، إنني أمقت تجسدات الأنانية الإنسانية والميكافيلية الجبانة التي يتسلح بها بعض البشر ممن يمارسون الشر خوفاً من أن يكونوا طيبين كما يقول باولو كويلو.

تجول صورة الطبيب العربي الأميركي في رأسي منذ أيام، منذ أن اتسعت موجة الاحتجاجات المنددة بالقرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترمب بحظر دخول المسافرين من سبع دول إسلامية إلى الأراضي الأميركية لمدة 90 يوماً، فلم يقف الشعب الأميركي صامتاً أمام موقف الرئيس بل على العكس، خرجت مظاهرات في عدد من المدن الأميركية التي ترفض هذا القرار وتدين بشدة تصرف الرئيس المنتخب، وحمل العديد من الأميركان لافتات كتبت عليها عبارات مؤثرة، وبها كم كبير من التعاضد الإنساني نحو المسلمين، وأنهم مرحبون للعيش في بلد الحرية، كما وأن العديد منهم انتظر لساعات طوال في مختلف مطارات ولايات أميركا لدعم قضية المسلمين والهتاف أثناء دخولهم، كل ذلك شاهدناه من خلال مقاطع الفيديو التي انتشرت بشكل لافت في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، وحازت على إعجاب المتابعين، وتزامن كل ذلك مع دعوة المشرعين الديمقراطيين في الكونغرس لإلغاء قرار الرئيس ترمب، واقترح أحد هؤلاء المشرعين، وهو السيناتور الديمقراطي كيرسي ميرفي، تعطيل جلسات تأكيد اختيار الوزراء الذين اقترحهم ترمب، وذلك كوسيلة للضغط عليه للتراجع عن القرار.

ورغم كل ما حدث خلال الفترة الماضية، إلا أنك ستجد العديد ممن يشتمون أميركا وشعبها، لكنه في مقابل ذلك يصر بشكل سنوي على قضاء إجازة الصيف على شواطئ سانتا مونيكا، ويتبضع من متاجر أسواق نيويورك، ويبعث أبناءه للدراسة بها، وحينما تتحدث عن المسؤولية الاجتماعية التي تحلى بها مثل هذا الشعب، يشتمك ويدينك كما فعل الطبيب، ويذكرك بالحروب التي قامت بها الأنظمة الأميركية لا الشعب الأميركي.